بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
الأمير نور الدين محمود زنكي هو الإبن الثاني للأمير عماد الدين زنكي بن آق سنقر الحاجب بن عبد الله آل ترغان الحاكم المسلم الملقب بأبي المظفر والأتابك والملك المنصور والذى حكم أجزاء من بلاد الشام كما أنه كان قائد عسكرى مشهور ويعد من أهم الحكام والقادة العسكريين فى التاريخ الإسلامي حيث حارب الصليبيين وإنتصر عليهم وإستعاد أجزاء واسعة من مناطق بلاد الشام التى سيطرت عليها الجيوش الصليبية خلال الربع الثاني من القرن الثاني عشر الميلادى ويلقب الأمير نور الدين محمود بالملك العادل كما كان له عدة ألقاب أخرى منها ناصر أمير المؤمنين وتقي الملوك وليث الإسلام كما أنه لقب أيضا بنور الدين الشهيد رغم وفاته بسبب المرض وقد حكم حلب بعد وفاة والده وقام بتوسيع إمارته بشكل تدريجي وكان من أعظم قادة المسلمين الذين حاربوا الصليبيين في الشام حيث ورث عن أبيه مشروع محاربتهم كما أنه وقف أمام الدولة الفاطمية في مصر وقد وصفه المؤرخون بأنه أعدل وأعظم الحكام المسلمين بعد الخلفاء الراشدين الأربعة والخليفة الأموى الثامن الملقب بخامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز وكان ميلاد نور الدين محمود بحسب كتاب البداية والنهاية للمؤرخ الحافظ إسماعيل بن كثير في يوم 17 شوال عام 511 هجرية الموافق يوم 10 فبراير عام 1118م بحلب وكان ثاني أولاد الأمير عماد الدين زنكي بعد سيف الدين غازى والذى خلف اباه في حكم إمارة الموصل كما كان لهما أخوان آخران هما نصرة الدين أمير أميران وقطب الدين مودود ونشأ نور الدين محمود في كفالة والده الأمير عماد الدين زنكي صاحب حلب والموصل وغيرهما وتعلم في طفولته القرآن الكريم والحديث ولما وصل إلى سن الفتوة والشباب تعلم الفروسية والرمي ووصفه المؤرخ إبن كثير بأنه كان شهما شجاعا صاحب همة عالية وقصد صالح وحرمة وافرة وديانة بينة ووصفه أيضا بأنه كان أسمر اللون طويل القامة حسن الصورة لا يوجد في وجهه شعر سوى ذقنه كما كان حنفي المذهب ويرى بعض المؤرخين الحديثين أنه كان أشعريا وهي جماعة تنسب إلى مؤسسها أبي الحسن الأشعرى في حين يرى آخرون أنه كان متبعا للطريقة القادرية وهي أحد الطرق الصوفية السنية ويرى آخرون أنه وفق بين القادرية والأشعرية وكان والده يقدمه على إخوانه ويرى فيه مخايل النجابة والنبوغ والتفوق وبقي نور الدين محمود ملازما لوالده حتى إغتياله أثناء حصاره لقلعة جعبر والتي تقع في منطقة الجزيرة السورية على الضفة اليسرى لنهر الفرات على بعد 53 كيلو مترا من مدينة الرقة في سوريا في يوم 6 ربيع الآخر عام 541 هجرية الموافق يوم 15 سبتمبر عام 1146م وبعد وفاة أبيه عماد الدين زنكي تزوج نور الدين محمود في يوم 23 شوال عام 541 هجرية الموافق يوم 27 مارس عام 1147م من الأميرة عصمة الدين خاتون إبنة الأتابك معين الدين أنر حاكم دمشق وكتب العقد في دمشق وأنجب منها ولدين وبنت الأكبر إسماعيل الذي تولى الحكم من بعده والأصغر أحمد مات طفلا .
ومن جانب آخر فأيضا بعد وفاة الأمير عماد الدين زنكي مباشرة أخذ إبنه نور الدين محمود خاتم والده وذهب مع جنده إلى حلب فملكها هي وتوابعها وكان عمره آنذاك ثلاثين عاما وسارع شقيقه سيف الدين غازى الإبن الأكبر لعماد الدين زنكي إلي الموصل وثبت حكمه لها وللجزيرة الفراتية وحمص وبذلك إنقسمت الدولة الزنكية إلى قسمين الأول في الموصل وتوابعها والثاني في حلب وتوابعها وعلاوة على ذلك فقد حكم نصرة الدين أمير أميران شقيق كل من سيف الدين غازى ونور الدين محمود منطقة حران بجنوب شرق الأناضول عند منبع نهر البليخ أحد روافد نهر الفرات تابعا لنور الدين محمود في حين بقي الأخ الرابع قطب الدين مودود تحت رعاية شقيقه الأكبر سيف الدين غازى وكان الحد الفاصل بين أملاك الأخوين هو نهر الخابور في الجزيرة السورية وبعد أن إستقر نور الدين محمود في حلب بدأ يضم العديد من المدن والمقاطعات خلال فترة حكمه على حساب الأسر العربية الحاكمة وكانت إمارة الرها وهي من مدن أرض الجزيرة تقع بين الموصل والشام والتي كان والده الأمير عماد الدين زنكي قد فتحها قد خضعت بعد وفاته لحكم إبنه الأكبر سيف الدين غازى وأبقى حامية صغيرة في المدينة للدفاع عنها فحاول جوسلين الثاني إستعادة المدينة مستغلا تمردا للأرمن قام بالتحريض عليه بعد وفاة عماد الدين زنكي فخرج على رأس قوة عسكرية متجها إلى الرها وسانده في ذلك بلدوين حاكم إمارة مرعش الصليبية في حين رفض ريموند الثاني حاكم أنطاكية وهي أيضا كانت إحدى الإمارات الصليبية مساعدته وإستطاع جوسلين الثاني الدخول إلى البلدة في شهر ربيع الآخر عام 541 هجرية الموافق شهر سبتمبر عام 1146م لكنه لم يستطع دخول القلعة التي إحتمت فيها الحامية الإسلامية وذلك بسبب قلة عدد القوات المرافقة له فأرسل طالبا المساعدة من إمارتي أنطاكية وطرابلس وفي المقابل أرسلت الحامية الإسلامية طلبا بالمساعدة والمدد فخرج جيشان جيش من الموصل بأمر سيف الدين غازى لكنه وصل متأخرا وجيش من حلب حيث خرج نور الدين محمود من حلب على رأس جيش تعداده عشرات الآلاف من الفرسان وحاصر قوات جوسلين الثاني في شهر جمادى الآخرة عام 541 هجرية الموافق شهر نوفمبر عام 1146م مما أجبر جوسلين إلى الهرب فطارده نور الدين محمود ووقعت معركة في سميساط والتي تقع غربي نهر الفرات جنوبي إقليم الأناضول ونجح جوسلين الثاني في الفرار بعد الإنتصار الذى حققه نور الدين محمود عليه والذى عاقب أهالي الرها المتمردين بأن تركهم نهبا لجنود جيشه وطرد من بقي فيها من الفرنجة وقد أقر سيف الدين غازى بحكم نور الدين محمود أخيه على الرها بعد أن طرد منها الصليبيين وحررها وسيطر عليها .
وإتجه نور الدين محمود بعد ذلك إلى محاولة ضم دمشق لإمارته وكانت أول محاولاته للسيطرة على دمشق في عام 545 هجرية الموافق عام 1150م حين أرسل قواته إليها لكن مسيرها تأخر بسبب هطول الأمطار بغزارة فسارع مجير الدين أبق والذى كان وصيا على عرش معين الدين أنر حاكمها بالإستنجاد بالفرنجة الصليبيين فقرر نور الدين محمود فك الحصار عن دمشق بعد أن وعده مجير الدين بأن ينقش إسمه على النقود وأن يدعو له في المساجد وحدث أن سيطر الصليبيون على عسقلان عام 548 هجرية الموافق عام 1153م بعد أن إنتزعوها من يد الفاطميين وإعترضت دمشق بين نور الدين محمود وبينها وخشي نور الدين على دمشق خاصة بعد أن إستطال الصليبيون عليها بعد سيطرتهم علي عسقلان ووضعوا عليها الجزية وإشترطوا عليهم تخيير الأسرى الذين بأيديهم في الرجوع إلى وطنهم فقام نور الدين محمود بتكليف نجم الدين أيوب الذي كان حاكم بعلبك آنذاك بكسب بعض القواد في دمشق وبث الشائعات داخلها وتحريض الشعب على الثورة حتى ذهب نجم الدين مع بعض من حرسه لمقابلة مجير الدين والذى خشي بدوره من المقابلة ورفضها فإعتبرها نور الدين محمود إهانة فسير جيشه إلى دمشق فإستنجد مجير الدين بالصليبيين على أن يعطيهم الأموال ويسلم لهم بعلبك فتجمعوا وإحتشدوا وفي خلال ذلك عمد نور الدين محمود إلى دمشق في شهر المحرم عام 549 هجرية الموافق شهر أبريل عام 1154م وكاتب جماعة من أهلها وأمنهم علي أنفسهم ودورهم وأموالهم فلما وصل ثاروا على مجير الدين والذى لجأ إلى القلعة وفتحت الجماعة المشار إليها أحد أبواب دمشق وهو الباب الشرقي ليدخل نور الدين محمود منه وهكذا ملك نور الدين محمود المدينة وضمها إلى إمارته وحاصر مجير الدين في القلعة وبذل له إقطاعا منها مدينة حمص فسار إليها مجير الدين وملك نور الدين القلعة ثم عوضه عن حمص ببالس فلم يرضها فرحل إلى بغداد وإبتنى بها دارا وأقام بها إلى أن توفي ومن دمشق ننتقل إلى شيزر والتي تقع على نهر العاصي وتملك موقع إستراتيجي في الجزء الأوسط من سوريا جنوبي حلب وإدلب حيث أنها تقع على الخطوط التجارية بين حلب ودمشق وحمص وعلى الرغم من ذلك لم يحاول نور الدين محمود ضمها عسكريا لكن وقع زلزال مدمر عام 552 هجرية الموافق عام 1157م دمر قلعتها والكثير من دورها ومنازلها والتي كانت تتداخل مع القلعة وقتل معظم أهلها من آل منقذ وهم أسرة عربية من بني كنانة إحدى قبائل كلب الذين إجتمعوا عند أميرها في دعوة فأصابتهم الزلزلة مجتمعين فسقطت عليهم القلعة ولم ينج منهم أحد فخشي نور الدين محمود على شيزر من أن تقع تحت أيدى الصليبيين فقام بترميم ما تضرر من أسوارها وتحصيناتها وبذلك دخلها بعض الأمراء التابعين له ومن ثم دخلها نور الدين محمود وملكها بعد أن مات جميع آل منقذ .
وبعد أن نجح نور الدين محمود في ضم دمشق أعلن الضحاك بن جندل البقاعي والذى كان تابعا لإمارة دمشق عصيانه وتمرده عليه لكنه لم يقم بأى عمل ضده خوفا منه بأن يستنجد بالصليبيين وإنتظر مدة ثلاث سنوات حتى عقد إتفاق هدنة مع الصليبيين وفي عام 552 هجرية الموافق عام 1157م ضم نور الدين محمود بعلبك دون أى مقاومة من الضحاك وكان شقيقه نصرة الدين حاكم حران والذى كان خاضعا في نفس الوقت لسلطانه كما أسلفنا وإستمرت هذه العلاقة حتى العام المذكور 552 هجرية الموافق عام 1157م حيث كانت قد إزدادت الطموحات السياسية لنصرة الدين وأراد السيطرة على حلب مستفيدا من مرض نور الدين محمود ودعم الإسماعيلية له فقام بالسيطرة على المدينة إلا أن القلعة إستعصت عليه وبعد فشل هذه المحاولة قرر نور الدين محمود إخضاع حران لسيطرته المباشرة فقام بحصارها لمدة شهرين وسقطت بالفعل في يده عام 554 هجرية الموافق عام 1159م ولاذ أخوه نصرة الدين بالفرار إلا أن نور الدين إستمال أخاه فيما بعد وشارك معه في حروبه ضد الصليبيين وكانت المحطة التالية لنور الدين محمود فتحه لقلعة جعبر فحاول ملاينة شهاب الدين العقيلي صاحبها بعد أن تم أسره وإكرامه أثناء أسره لحثه على تسليم القلعة لكنه رفض مما دفع نور الدين محمود إلى محاصرة القلعة لكنه فشل في فتحها فلجأ هذه المرة إلى أسلوب الإغراء بأن عرض عليه مناطق غنية وذات موارد زراعية تابعة لحلب إضافة إلى 20 ألف دينار فوافق شهاب الدين وإستلم نور الدين محمود القلعة عام 564 هجرية الموافق عام 1168م أما إمارة الموصل فكان قد إستلمها قطب الدين بعد وفاة أخيه سيف الدين غازى عام 554 هجرية الموافق عام 1158م وشارك مع نور الدين محمود في معظم حروبه وأصبح يخطب له في إمارته طواعية دون كراهية لكن بعد وفاة قطب الدين إستلم الإمارة إبنه سيف الدين غازى الثاني بدلا عن إبنه عماد الدين زنكي الثاني حسب وصية قطب الدين وذلك بمساعدة الوزير فخر الدين عبد المسيح بمساعدة والدة سيف الدين وأصبح فخر الدين هو المسيطر والمتحكم في الإمارة وأزعج هذا الأمر نور الدين محمود فتوجه إلى الموصل على رأس جيشه وقام بضم الأراضي الخاضعة لإمارة الموصل في طريقه مثل الرقة ونصيبين وضرب الحصار على سنجار حتى سقطت وأعطاها لإبن أخيه عماد الدين زنكي الثاني ثم قام بفرض الحصار على الموصل حتى إستجاب فخر الدين عبد المسيح بتسليمها مشترطا منحه إقطاعا في أى مكان يراه نور الدين محمود مناسبا وببقاء سيف الدين غازى الثاني على إمارة الموصل ووافق نور الدين محمود على ذلك وهكذا سيطر على الموصل في عام 566 هجرية الموافق عام 1170م وبذلك عادت الإمارة الزنكية إمارة موحدة تضم حلب ودمشق وشيزر والموصل وأرض الجزيرة الفراتية وبعلبك كما كانت في عهد أبيه عماد الدين زنكي .
ومن جانب آخر كان نور الدين محمود قد وضع نصب عينيه قتال الصليبيين منذ بداية إستلامه لإمارة حلب بعد مقتل أبيه وإنهاء جميع معاقل الصليبيين في بلاد الشام وكان هدفه تحرير القدس حتى أنه أمر ببناء منبر عام 563 هجرية الموافق عام 1168م ليضعه في المسجد الأقصى بعد أن يقوم بفتح المدينة وقد صنع هذا المنبر في دمشق بواسطة أمهر الحرفيين في دمشق وحلب وقد نقل هذا المنبر بالفعل إلى القدس بعد فتحها على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي بعد معركة حطين عام 1187م وفتح القدس ودعي هذا المنبر فيما بعد بمنبر صلاح الدين وفي واقع الأمر كان نور الدين محمود منذ أن تسلم الحكم وهو في الثلاثين من عمره وحتى يوم وفاته واضح الرؤية والهدف إذ كان قد وضع نصب عينيه واجب الجهاد المقدس لتحرير الأرض من الصليبيين المعتدين وخاصة بيت المقدس وتوفير الأمان للناس وكان مدركا تمام الإدراك أن الإنتصار على الصليبيين لن يتحقق إلا بعد جهاد طويل ومرير حافل بالتضحيات في خطوات متتابعة تقرب كل منها يوم الحسم كان أهمها توحيد الصف بجمع بلاد الشام ومصر في إطار سلطة سياسية واحدة وتوحيد الهدف بجمع المسلمين تحت راية مذهب واحد هو مذهب أهل السنة وكان كلما توغل في خضم الجهاد وتقدم به الزمان يزداد إقتناعا بصواب هذه السياسة وكان سبيله إلى ذلك مزيج من العمل السياسي والمعارك العسكرية التي تخدم توحيد الصف والهدف وقد بدأ نور الدين محمود بقتال الصليبيين مباشرة بعد إستلامه الحكم وكانت أولى المعارك معهم حينما حاول الصليبيون إسترجاع الرها والتي إنتهت بسيطرة نور الدين محمود على تلك الإمارة كما أسلفنا وفي نفس العام تمرد توتنتاش والي بصرى على معين الدين أنر أمير دمشق والتي كانت تابعة إلى إمارة دمشق آنذاك وطلب توتنتاش مساعدة الصليبيين في تمرده فتحركت جيوش الصليبيين بناءا على ذلك متجهة إلى دمشق فما كان من صاحبها معين الدين أنر إلا أن طلب المعونة من نور الدين محمود رغم القلق الذى كان ينتاب معين الدين من رغبة نور الدين في ضم دمشق فأرسل نور الدين الرسل لطلب الزواج من إبنة معين الدين عصمة الدين خاتون ليبث الطمأنينة في قلب هذا الأخير وتزوجها بالفعل كما أسلفنا وإلتقي الجيش الحلبي مع الجيش الدمشقي في بصرى وتمكن الجيشان من القضاء على التمرد بسرعة ومن ثم توجها لملاقاة الجيش الصليبي الذى إنسحب وتراجع إلى القدس من دون حدوث أى مواجهة تذكر وحصل نور الدين محمود على مدينة حماة مكافأة له على مساعدته لدمشق وفي عام 542 هجرية سيطر نور الدين على مناطق واسعة في بلاد الشام وخصوصا تلك التابعة لإمارة أنطاكية مثل أرتاح ومابولة وبصرفوت وكفر لاثا وهي تقع بجنوب تركيا وشمال غرب سوريا حاليا وكان سقوط امارة الرها قد سبب صدمة كبيرة لدى الصليبيين خاصة وأنها تمثل قيمة دينية كبيرة لهم وخشية من سقوط المزيد من الإمارات الصليبية أصدر البابا إيجين الثالث أمرا بابويا بتجنيد حملة صليبية جديدة أطلق عليها الحملة الصليبية الثانية تمييزا لها عن الحملة الصليبية الأولي التي كانت قد إنتهت بتأسيس أربعة إمارات صليبية ببلاد الشام فإستجاب لهذا الأمر كل من لويس السابع ملك فرنسا وكونراد الثالث ملك المانيا وتحركت جحافل الجيوش الصليبية في صيف عام 542 هجرية الموافق عام 1147م وبلغ تعداد الجيشين الألماني والفرنسي نحو 70 ألف فارس وإلتحقت بهم جموع ضخمة من المتطوعين من الفقراء والفلاحين وتحرك الجيش الألماني إلى العاصمة البيزنطية القسطنطينية عام 542 هجرية الموافق عام 1147م ومنها بدأ يتحرك إلى نيقية بغرب إقليم الأناضول وهي تسمي إزنيق حاليا ليبدأ تحركه عبر إقليم الأناضول إلى بلاد الشام لكنه أصبح عرضة لضربات متتابعة من حكام إمارات دولة سلاجقة الروم وهو في طريقة نحو بلاد الشام وخسر عددا كبيرا من الجنود والعتاد بالإضافة إلى تعرضه للمجاعة والأوبئة والأمراض وأجبر هذا الملك الألماني أن يطلب من ملك فرنسا أن يلتحق بقية جيشه بالجيش الفرنسي عندما يلتقي الجيشان في نيقية ومن ثم إنتقل الجيش إلى مدينة أنطاكية وفي نفس الوقت ترك الملك الألماني الحملة متوجها نحو العاصمة البيزنطية القسطنطينية للعلاج بسبب إصابته بمرض جلدى خطير وبعد شفائه منه توجه إلى بيت المقدس مباشرة وقام الملك الفرنسي لويس السابع بإعادة تنظيم الجيش بسبب كثرة هجمات السلاجقة عليهم أثناء المسير إلى أنطاكية .
وسرعان ما غادر الملك الألماني أنطاكية متجها نحو القدس وبعد إجتماع الصليبيين في القدس تم عقد إجتماع آخر في مدينة عكا برعاية الملكة ميليسندا في يوم 5 ربيع الأول عام 543 هجرية الموافق يوم 24 يونيو عام 1148م ليقرورا خطة التحرك المستقبلية وليتفقوا على ضرورة إحتلال دمشق ولتتحرك الجيوش الصليبية بتعداد قدره عدد 60 ألف فارس وعدد 8 آلاف راجل بينهم عدد 4 آلاف رامي نحو دمشق وفي يوم 27 ربيع الأول عام 543 هجرية الموافق يوم 15 يوليو عام 1148م ووصلت هذه الجيوش أسوار دمشق في يوم 1 جمادى الأولى عام 543 هجرية الموافق يوم 19 يوليو عام 1148م وفرضت الحصار عليها وواجهت الحملة الصليبية مقاومة قوية من قبل الجند والشعب في دمشق وسرعان ما إستنجد معين الدين أنر صاحب دمشق بسيف الدين غازى وبنور الدين محمود ليلتقي جيشاهما في حمص وأرسل سيف الدين رسالة إلى معين الدين يطالبه بأن يجعل قادته يحكمون دمشق أثناء الحرب من أجل التحصن بدمشق في حالة هزيمته وفي حالة النصر فإنه لن يحكم دمشق وسيبقيها تحت سيطرته وفي نفس الوقت أرسل التهديدات إلى قادة الحملة الصليبية وخشي معين الدين من طموح سيف الدين وأخيه نور الدين في السيطرة على دمشق فأرسل يهدد الصليبيين بتسليم دمشق لهما وخسارتهم لحليف فيها وعرض عليهم تسليمهم قلعة بانياس كتعويض لهم مما أدى إلى تفتت لحمة الصليبيين وقبول هذا العرض وذلك على الرغم من معارضة ملك المانيا له وبعد 4 أيام إضطرت الحملة الصليبية الثانية إلى التراجع بعد المواجهة الشرسة مع الدمشقيين إضافة إلى الخشية من مواجهة جيش الأخوين زنكي وعلى الرغم من أن تعداد هذه الحملة كان أكبر من الحملة الأولى فقد توالت حروب نور الدين محمود مع الصليبيين بعد الحملة الصليبية الثانية والتي ما لبثت أن بدأت مباشرة بعد فشل الحملة وبالنسبة للعلاقة بين إمارة نور الدين محمود وبين مملكة بيت المقدس فقد شهدت تفاوتا كبيرا وكان هناك تنافس كبير على تمدد الرقعة الجغرافية لكليهما وبعد سقوط عسقلان عام 548 هجرية الموافق عام 1153م سارع نور الدين محمود إلى السيطرة على دمشق كما حصل تنافس كبير بين المملكتين في السيطرة على مصر وأحيانا كانت تعقد هدن قصيرة بين الطرفين كانت تمتد من بضعة أشهر إلى سنتين ومن الملاحظ أن نور الدين محمود كان قد إتجه إلى مهادنة مملكة بيت المقدس عام 550 هجرية الموافق عام 1155م لمدة عام وفي العام التالي أى في عام 551 هجرية الموافق عام 1156م تجددت المعاهدة فتم إرسال قطيعة للصليبيين قدرها 8 آلاف دينار وقبل نهاية المعاهدة خرقها الصليبيون عندما هاجم بلدوين الثالث ملك بيت المقدس مراعي بانياس كذلك عقدت معاهدة بين الطرفين لمدة عامين في عام 556 هجرية الموافق عام 1160م وعلى أثر موجة الزلازل القوية التي إجتاحت الشام عام 566 هجرية الموافق عام 1170م إتجه نور الدين محمود إلى عقد هدنة مع الملك عمورى الأول شقيق بلدوبن الثالث وخليفته ويضاف إلى ذلك أنه تم عقد هدنة قصيرة مدتها 3 أشهر بين الطرفين عام 568 هجرية الموافق 1173م وجدير بالذكر أن نور الدين محمود كان يحلم بتحرير بيت المقدس وطرد الصليبيين منه إلا أنه لم يتيسر له ذلك في حياته لكنه بلا شك كان قد مهد الطريق لينجز صلاح الدين الأيوبي هذه المهمة بعد سنوات قليلة في عام 1187م كما أسلفنا .
وبعد مغادرة معظم أمراء الحملة الصليبية الثانية بقي الكونت برتراند كونت تولوز إبن الكونت ألفونسو الذى توفي في قيسارية وشاع أن ريموند الثاني كونت طرابلس هو من قام بقتله بسبب الخلاف على إمارة طرابلس وأراد برتراند الإنتقام لموت أبيه وأعلن انه الوريث الشرعي لإمارة طرابلس فقام بإحتلال حصن عريمة من بين يدى حاكم طرابلس وحاول ريموند التصدى لحملة برتراند لكن جنوده إنهزموا وطلب ريموند المساعدة من أمراء الصليبيين لكنهم رفضوا فإضطر بالإستنجاد بمجير الدين أنر صاحب دمشق آنذاك وخصوصا أنه لم يساهم في الحملة الصليبية الثانية ووافق أنر على مساعدته وطلب أيضا مساعدة نور الدين محمود ليتوجه الجيشان إلى حصار حصن العريمة وهو يقع بين طرسوس وطرابلس ليتم تدمير الحصن بشكل كامل وأسر الكثير من الصليبيين وكان من بين الأسرى الكونت برتراند وأخته وفيما بعد قام نور الدين محمود في عام 558 هجرية الموافق عام 1163م بتجميع جيوشه والتوجه إلى حصن الأكراد أو قلعة الحصن والتي تقع على بعد 60 كم من حمص وعسكر في منطقة تدعى البقيعة لكن تفاجأ جيش نور الدين محمود بظهور رايات الصليبيين في معسكره وحاول جنوده دفعهم لكنهم لم يستطيعوا وكثر القتلى والأسرى في صفوف الجيش حتى وصل الصليبيون إلى خيمة قيادة نور الدين محمود الذى خرج على عجل من خيمته مسرعا وركب فرسه وحاول أحد الصليبيين قتله وسرعان ما أنقذه أحد جنوده بقتل من حاول قتله وإنسحب نور الدين محمود إلى حمص ونصب معسكره على بحيرة قدس وموضعها قرب حمص وأكرم العطاء لجنده أما الصليبيين فإنهم كانوا عازمين على قصد حمص بعد أن هزموا جيش نور الدين محمود لأنها أقرب البلاد إليهم فلما بلغهم مقام نور الدين عندها قالوا إنه لم يفعل هذا إلا وعنده من القوة ما يمنعنا فأرسلوا إلى نور الدين محمود يطلبون المهادنة فلم يجبهم إليها فتركوا عند الحصن من يحميه ويدافع عنه وعادوا إلى بلادهم وتفرقوا وإتجه جيش نور الدين محمود إلى الإستيلاء على حصن المنيطرة في عام 561 هجرية الموافق عام 1165م وهو حصن صغير لحراسة إحدى الممرات الجبلية في إمارة طرابلس بلبنان وغنم الغنائم الوفيرة وفي العام التالي 562 هجرية الموافق عام 1166م تمت مهاجمة المناطق المحيطة بحصن الأكراد وسلب الغنائم وكذلك تم الإستيلاء على حصن صافيتا بمحافظة طرطوس بغرب سوريا وكان من حصون الإمارة المنيعة ووقع صدام بين جيش نور الدين محمود وجيش إمارة طرابلس عام 565 هجرية الموافق عام 1169م وبعد عامين أى في عام 567 هجرية الموافق عام 1171م واصل نور الدين محمود نفس السياسة وتم إرسال القوات لمحاصرة حصن عرقة شمالي طرابلس وكان يشغل موقعا إستراتيجيا لأنه كان يتحكم في الطريق بين طرطوس وطرابلس وإستولت عليه في نفس العام المذكور .
ومما يذكر أنه بعد عام واحد فقط من معركة حصن العريمة أى في عام 544 هجرية الموافق عام 1149م قام ريموند الثاني حاكم أنطاكية بالهجوم على قوات نور الدين محمود المتواجدة قرب أفاميا شمالي غرب حماة بشمال سوريا مما أدى إلى بعض التراجع في جيوش نور الدين محمود لكنه نجح سريعا في إعادة تجميع قواته ليلتقي بالجيش الصليبي عند قلعة أنب شمالي حلب لتتم المواجهة بين جيشه وجيش ريموند الثاني الذى كان متحالفا مع علي بن وفا زعيم طائفة الحشاشين الشيعية الإسماعيلية وإندهش نور الدين من ضعف جيش ريموند وقد ظن في بادئ الأمر أن هناك خديعة وبدأ الهجوم الشامل في يوم 9 صفر عام 544 هجرية الموافق يوم 29 يونيو عام 1149م على جيش ريموند مما أدى إلى سحق الجيش الصليبي ورفض ريموند الفرار نظرا للمكانة التي كان يتمتع بها وقتل في المعركة بضربة سيف من أسد الدين شيركوه وقام نور الدين بإرسال رأس ريموند إلى الخليفة العباسي المقتفي لأمر الله وإستغل حالة التخلخل التي أصابت إمارة أنطاكية ليندفع فاتحا معظم القرى والمدن فعمل على الإستيلاء على عدد من الحصون في منطقة الوادى الأوسط لنهر العاصي ومنها أزمان وأنب وعم وإجتاح سهل أنطاكية حتى بلغ ميناء السويدية وبذلك قضى على المراكز الصليبية الأمامية الواقعة بين حلب وأنطاكية التابعة لها حتى وصل أبواب أنطاكية لكنه وجد مقاومة شديدة من أرملة ريموند الثاني كما دفع بلدوين الثالث جيوشه نحو الشمال لتخفيف الحصار عن أنطاكية فترك نور الدين بعض من جيشه في محاصرة أنطاكية وإتجه إلى حصن أفاميا فخاف أهلها على أنفسهم وأعلنوا إستسلامهم بعد أن أمنهم نور الدين محمود على أنفسهم ولما بدا له أن بلدوين الثالث قد حرك جيشه بإتجاه أنطاكية إتفق مع الإمارة المحاصرة على المهادنة على أن تكون ما يقرب من الأعمال الحلبية له وما يقرب من أنطاكية لهم وقام الملك عمورى الأول والذى خلف بلدوين الثالث في مملكة بيت المقدس بتحريك جيوشه لمواجهة أسد الدين شيركوه الذى كان قد أرسله نور الدين محمود إلى مصر في مهمة مساعدة الوزير شاور فخاف نور الدين محمود على أن يسيطر الصليبيون على مصر فقرر مشاغلة الصليبيين في دمشق للتخفيف عن حملة أسد الدين شيركوه فقام بتجميع جيش وطلب من أخوه قطب الدين إرسال مدد له كما أرسل إليه كل من فخر الدين قره أرسلان صاحب ديار بكر ونجم الدين ألبي صاحب ماردين قوات أخرى فتجمع لديه جيش كبير وضرب حصار على مدينة حارم بشمال سوريا عام 559 هجرية الموافق عام 1164م والتي حاول فتحها في عام 557 هجرية الموافق عام 1162م لكنها تمنعت عليه فلم يستطع فتحها وفي المقابل تجمع عدد كبير من القوات الصليبية لصد هجوم نور الدين محمود مؤلفة من بوهمند الثالث أمير أنطاكية وريموند الثالث أمير طرابلس وجوسلين الثالث إبن جوسلين الثاني كما إنضم إليهم قسطنطينوس كالمنوس حاكم قيليقية وثوروس الثاني وميلخ أمراء مملكة أرمينيا الصغرى .
وأمام هذه الأحداث قرر نور الدين محمود فك الحصار عن حارم والتوجه إلى قرية أرتاح مفضلا أن تكون معركة سهلية فظن بهيموند الثالث أن جيوش نور الدين لاذت بالفرار فإستعجل الخطا للحاق بها حتى إبتعد عن بقية جيوشه ووجد نفسه محاصرا بقوات نور الدين فهزم ووقع في الأسر وهجم نور الدين على بقية جيوش الصليبيين فهزمهم وأوقع في الأسر معظم القادة مثل ريموند الثالث وقسطنطينوس كالمنوس أما ثوروس فقد نجح في الفرار وبعد ذلك توجه نور الدين إلى حارم وتمكن من السيطرة عليها وكان في إستطاعته فتح أنطاكية لكنه خشي من ردة فعل الإمبراطور البيزنطي الذى كان يعتبر نفسه حاميا لهذه المدينة فإنصرف عن هذه الجهة وكان جوسلين الثاني بعد أن فشل في ضم إمارة الرها مرة أخرى إلتجأ إلى حصن تل باشر بجنوب تركيا حاليا وبقي في حالة كر وفر مع نور الدين محمود والذى إضطر إلى مهادنته أكثر من مرة وفي عام 544 هجرية الموافق عام 1149م قرر نور الدين محمود التخلص من هذا الجيب الصليبي الذى يسبب إزعاجا له وأرسل إليه جيشا لكن جوسلين الثاني علم بذلك فعقد تحالفات مع بعض الحكام الأتراك والأرمن وإستطاع إلحاق هزيمة كبيرة بحيش نور الدين محمود والذى أثارته هذه الهزيمة فعمد إلى إغراء وإستمالة البعض من التركمان بالمال والإقطاعات مقابل قتل وأسر جوسلين الثاني وبالفعل نجح هؤلاء في أسره وذلك أثناء غزوه للتركمان وسبيه لإمرأة وإختلائه بها تحت شجرة فهجم هؤلاء عليه وأسروه وإقتادوه إلى نور الدين محمود وتشير بعض المراجع الغربية إلى أن أسر جوسلين الثاني كان أثناء توجهه إلى حضور إجتماع في أنطاكية نتيجة تأخره عن حرسه ووقع بيد بعض التركمان والذين كانوا على إستعداد لإطلاق سراحه لقاء فدية مالية ثمينة إلا أن نور الدين محمود علم بذلك وأغرى هؤلاء فإقتادوه إلى حلب ليقضي بقية حياته في السجن بعد أن فُقئت عيناه وبعد أسر جوسلين الثاني تيسر على نور الدين محمود فتح العديد من إقطاعاته بجنوب إقليم الأناضول مثل عنتاب وعزاز وقورس والراوندان وحصن البارة وتل خالد وكفر سود ودلوك ومرعش ونهر الجوز وبرج الرصاص وفيما بعد بيعت تل باشر إلى الإمبراطور البيزنطي عمانوئيل كومنينوس عام 545 هجرية الموافق عام 1150م وما لبثت أن سقطت في يد نور الدين محمود بعد عام واحد فقط .
|