بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
ولننتقل الآن إلى جبهة أخرى كان لنور الدين محمود زنكي دور كبير بها وهي الجبهة المصرية فبعد نجاحه في ضم دمشق والتي أصبحت عاصمة دولته ومنطلق الحكم وأصبح بالتالي ملك دمشق وموحد الشام لم يعد أمام الصليبيين للغزو والتوسع سوى طريق الجنوب بعد أن أحكم نور الدين محمود سيطرته على بلاد الشام ولذا تطلع الصليبيون إلى مصر بإعتبارها الميدان الجديد لتوسعاتهم وشجعهم على ذلك أن الدولة الفاطمية في مصر كانت تعاني من التدهور والضعف فإستولوا على عسقلان وكان ذلك إيذانا بمحاولتهم غزو مصر مستغلين الفوضى في البلاد وتحولت نياتهم إلى عزم حيث قام عمورى الأول ملك بيت المقدس بغزو مصر عام 558 هجرية الموافق عام 1163م محتجا بعدم إلتزام الفاطميين بدفع الجزية له غير أن حملته فشلت وأجبر على الانسحاب وأثارت هذه الخطوة الجريئة مخاوف نور الدين محمود فأسرع بشن حملات على الصليبيين في الشام حتى يشغلهم عن الإستعداد لغزو مصر ودخل في سباق مع الزمن للفوز بمصر وضمها لمملكته في الشام فأرسل عدة حملات من دمشق تحت قيادة أسد الدين شيركوه وبصحبته إبن أخيه الشاب اليافع صلاح الدين الأيوبي بدأت في عام 559 هجرية الموافق عام 1164م وإستمرت هذه الحملات نحو خمس سنوات لكنها فشلت عدة مرات بسبب خيانة شاور الوزير الأول للخليفة الفاطمي وتعاونه مع الصليبيين والفساد المتفشي في البلاد ولكن أسد الدين لم يتراجع ففي كل مرة كان يعيد تجهيز جيشه وينطلق من جديد بأوامر نور الدين محمود في دمشق حتى نجح بعد سباق محموم مع الصليبيين في الظفر بمصر عام 564 هجرية الموافق عام 1169م وتولى شيركوه الوزارة من العاضد لدين الله آخر حكام الفاطميين على أنه لم يلبث أن توفي فعين نور الدين محمود صلاح الدين الأيوبي وزيرا على مصر وضمها لملكه في الشام وكانت شعلة البداية لتدخل نور الدين محمود في مصر عندما إختلف الوزيران شاور وضرغام وزيرا الخليفة العاضد وتم خلع شاور على يد ضرغام فذهب شاور إلى نور الدين محمود طالبا منه العون في إستعادة الوزارة مقابل أن يدفع له مصاريف الحملة وأن يتخلى عن المقاطعات الحدودية ويدفع ضريبة سنوية تعادل ثلث إيرادات البلاد ولم يتخذ نور الدين محمود القرار إلا بعد أن إستخار الله ودعاه ثم أرسل أسد الدين شيركوه عبر الصحراء وقام هو بهجوم على بانياس للتمويه على تحركات أسد الدين وسرعان ما طالب ضرغام المساعدة من الملك عمورى الأول لكن أسد الدين سرعان ما عبر سيناء وواجه قوات ضرغام وقتله قبل أن تجهز القوات الصليبية وأعيد تنصيب شاور في عام 558 هجرية الموافق عام 1164م إلا أن شاور تنكر لوعوده وطالب أسد الدين بالرجوع إلى دمشق لكن أسد الدين رفض وسيطر على بلبيس فما كان من شاور إلا أن إستعان بعمورى الأول واعدا إياه سبع وعشرين ألف دينار وهدايا أخرى ومن ثم إنضمت قوات عمورى مع قوات شاور وحاصرت بلبيس لمدة ثلاثة أشهر لكن تدخل نور الدين محمود في الشام وأصداء إنتصار نور الدين محمود في معركة حارم جعلت الملك عمورى الأول يتفاوض على أن ينسحب هو وقوات أسد الدين من مصر .
وكانت لمطالبات الخليفة العباسي في بغداد بالقضاء على التشيع الفاطمي في مصر تأثير كبير على إعداد حملة ثانية من جانب نور الدين محمود والذى أعطى الإذن لأسد الدين شيركوه بالتوجه إلى مصر عام 561 هجرية الموافق عام 1166م فتحرك دون أن يخفي نواياه ليطلب شاور المساعدة من عمورى الأول الذى إستدعى باروناته للتأكيد على الخطر المحدق بالمملكة في حال سيطر نور الدين محمود على مصر وكان على قوة المملكة كلها المشاركة في القتال وعلى المتخلفين أن يدفعوا عشر إيرادهم السنوى وإتخذ أسد الدين طريقا مغايرا لطريق الصليبيين وعسكر قرب الجيزة وتقابل جيش شاور وعمورى في الشمال الشرقي من القاهرة على بعد ميل من أسوار القاهرة ليتم عقد إتفاق تحالف رسمي بين الطرفين يحصل بموجبه عمورى الأول على مبلغ 400 ألف دينار نصفهم في الحال ويوقع هذا الإتفاق العاضد لدين الله في القاهرة وبعد شهر من تعسكر الجيشين في مقابلة بعضهما البعض نجح عمورى في عبور نهر النيل على رأس الدلتا ليفاجئ أسد الدين والذى وجد أن جيشه قليل العدد فقرر الإنسحاب متحركا بإتجاه الجنوب وعسكر في الأشمونين ضمن مدينة خمون الفرعونية بمحافظة المنيا حاليا حيث لحق به الجيش الصليبي المصرى وبدأ الإشتباك بين الجيشين في يوم 24 جمادى الأولى عام 562 هجرية الموافق يوم 18 مارس عام 1167م وعلى الرغم من التفوق العددى للجيش الصليبي المصرى إستطاع أسد الدين هزيمتهم بأن أوهم جيوش الصليبيين بأن قلب جيشه يتراجع حتى لحقوا بهم وأطبق عليهم من الطرفين فقد كان جيشه خفيف الحركة بشكل أكثر من الجيش الصليبي المصرى فإنسحب عمورى وشاور إلى القاهرة فتوجه أسد الدين إلى مدينة الإسكندرية المعروفة بكرهها لشاور ففتحت لهم أبوابها وسرعان ما أعاد عمورى وشاور ترتيب الجيش وعلى الرغم من الخسائر الكبيرة التي لحقت بجيشهما إلا أنه كان لايزال أكثر عددا من جيش أسد الدين وضربوا حصارا قاسيا على الإسكندرية وبدأت ملامح المجاعة تلوح في الأفق فقرر أسد الدين التسلل مع حامية إلى خارج الإسكندرية وإستخلف صلاح الدين عليها متوجها إلى مصر العليا أملا بأن تلحق به جيوش عمورى إلا أن شاور أشار بأهمية الإسكندرية ليستمر الحصار عليها وترى المصادر الصليبية أن أسد الدين تسلل من الإسكندرية لما ساءت الأمور فيها وأنه أرسل في التفاوض على أن يخرج كلا الجيشين من مصر وألا يعاقب أهالي الإسكندرية للدعم الذى قدموه له وكان من أهم أسباب موافقة عمورى على هذه الصفقة إغارة نور الدين على إمارة طرابلس مما أدى إلى خوفه على أراضي مملكته في الشام في حين ترى المصادر العربية أن أسد الدين إفترق عن صلاح الدين مباشرة بعد الدخول إلى مدينة الإسكندرية وراح يغير على صعيد مصر وحين إشتد الحصار على مدينة الإسكندرية تحرك نحوها فطلب الصليبيين منه الصلح فوافق على ذلك ليخرج جيش نور الدين محمود من مصر في يوم 29 شوال عام 562 هجرية الموافق يوم 18 أغسطس عام 1167م وعقد مجلس للبارونات برعاية الملك عمورى الأول في القدس للنظر في أمور مصر نظرا لتخلف شاور عن دفع الإتاوة إلى الحامية الصليبية الموجودة فيها إضافة إلى وجود شائعات تفيد بأن الكامل بن شاور تقدم للزواج من أخت صلاح الدين وقرر المجمع التحرك نحو مصر ليصل في يوم 26 من شهر المحرم عام 564 هجرية الموافق يوم 30 أكتوبر عام 1168م إلى بلبيس وحاول شاور إعادة المعاهدة لكن الملك طلب مليوني دينار إضافيين فقرر شاور المقاومة لكن الجيش الصليبي إستطاع دخول قلعة بلبيس بعد أربع أيام وإرتكب مذبحة كبيرة هناك شملت كل من الأقباط والمسلمين وبدأ عمورى حصار الفسطاط في يوم 13 نوفمبر عام 1168م مما دفع شاور إلى حرق الفسطاط وبدأ يهدد بإشعال القاهرة في حال إستمر عمورى في خطته كما قام في نفس الوقت بمفاوضة عمورى على المبلغ الذي سيدفعه وعظم حريق الفسطاط على الخليفة العاضد فأرسل إلى نور الدين محمود طالبا النجدة والذى أرسل أسد الدين شيركوه إلى مصر وقام شاور بتحذير عمورى الأول أثناء المفاوضات من تحرك جيش نور الدين بإتجاه مصر فقرر عمورى مباغتة جيش أسد الدين وهو في طريقه إلى مصر لكن أسد الدين أدرك ذلك فإتجه نحو الجنوب متجاوزا الصليبيين فما كان من عمورى إلا الجلاء عن أرض مصر في يوم 2 من شهر ربيع الآخر عام 564 هجرية يوم 2 يناير عام 1169م ليدخل أسد الدين شيركوه القاهرة في يوم 7 ربيع الآخر عام 564 هجرية الموافق يوم 7 يناير عام 1169م وفي يوم 17 ربيع الآخر عام 564 هجرية الموافق يوم 17 يناير عام 1169م ألقي القبض على شاور وأصدر العاضد أمرا بقتله وعين أسد الدين كوزير بدلا منه .
وبعد سقوط مصر في يدى نور الدين محمود أرسل الملك عمورى رسله لإرسال حملة صليبية جديدة شارحا خطورة الأمر والتغير في ميزان القوى في المنطقة فإستجاب البابا الكسندر الثالث وبعث رسائل إلى ملوك أوروبا لكنها لم تجد أذنا صاغية في حين نجح الرسول المرسل إلى القسطنطينية بسبب إدراك الإمبراطور عمانوئيل إختلال توازن القوى في المنطقة فعرض تعاون الأسطول الإمبراطورى مع حملة عمورى الأول الذى وجد الفرصة مناسبة بسبب إنشغال نور الدين محمود في الشمال بالخلافات الناتجة عن موت فخر الدين قره أرسلان وعصيان حاكم منبج ومرض أخيه قطب الدين زنكي إضافة إلى وفاة أسد الدين شيركوه وتعيين صلاح الدين مكانه والذى كان يراه الملك عمورى بالشخص غير المحنك وقد نتج عن تأخر الحملة 3 أشهر منذ إنطلاقها في يوم 13 شوال عام 564 هجرية الموافق يوم 10 يوليو عام 1169 م بسبب عدم حماسة الأمراء والبارونات الصليبيبن للمعركة بعدما حدث في المعارك الأخيرة إلى إستعداد صلاح الدين بشكل جيد لمواجهة الصليبيين ووصلت الحملة الصليبية إلى دمياط وبدأ حصارها في يوم 1 صفر عام 565 هجرية الموافق يوم 25 أكتوبر عام 1169م ليرسل صلاح الدين قواته بقيادة شهاب الدين محمود وإبن أخيه تقي الدين عمر وأرسل إلى نور الدين محمود يشكو ما هم فيه من المخافة ويقول إن تأخرت عن دمياط ملكها الإفرنج وإن سرت إليها خلفني المصريون في أهلها بالشر وخرجوا من طاعتي وساروا في أثرى والفرنجة أمامي فلا يبقى لنا باقية وقال نور الدين محمود في ذلك إني لأستحي من الله أن أبتسم والمسلمون محاصرون بالفرنجة فسار نور الدين محمود إلى الإمارات الصليبية في بلاد الشام وقام بشن الغارات على حصون الصليبيبن ليخفف الضغط عن مصر وقامت حامية دمياط بدور أساسي في الدفاع عن المدينة وألقت سلسلة ضخمة عبر نهر النيل منعت وصول سفن الروم إليها وهطلت أمطار غزيرة حولت المعسكر الصليبي إلى مستنقع فتهيأوا للعودة وغادروا دمياط بعد حصار دام خمسين يوما بعد أن أحرقوا جميع أدوات الحصار وعندما أبحر الأسطول البيزنطي هبت عاصفة عنيفة ولم يستطع البحارة الذين كادوا أن يهلكوا جوعا من السيطرة على سفنهم فغرق معظمها ويحكى أن إماما لنور الدين محمود رأى ليلة رحيل الفرنجة عن دمياط في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له أَعلم نور الدين محمود أن الفرنجة قد رحلوا عن دمياط في هذه الليلة فقال يا رسول الله ربما لا يصدقني فإذكر لي علامة يعرفها فقال قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم وقلت يا رب إنصر دينك ولا تنصر محمودا من هو محمود الكلب حتى ينصر وبعد إندحار الحملة الصليبية على دمياط أرسل نور الدين محمود إلى صلاح الدين طالبا إياه بإيقاف الدعاء للخليفة الفاطمي والدعاء بدلا عن ذلك للخليفة العباسي في مساجد مصر ولم يرغب صلاح الدين من الإمتثال لهذا الأمر خوفا من النفوذ الشيعي في مصر وأخذ يراوغ في تأخير الأمر إلا أن نور الدين محمود هدد صلاح الدين بالحضور شخصيا إلى القاهرة وتنفيذ الأمر فإتخذ صلاح الدين الإجراءات الشرطية اللازمة لكن لم يتجرأ أحد على القيام بذلك إلى أن جاء شيخ سني من الموصل زائر وقام في الجامع الكبير وخطب للخليفة العباسي المستضئ بأمر الله في أول جمعة من شهر المحرم عام 567 هجرية الموافق شهر سبتمبر عام 1171م لتحذو القاهرة كلها حذوه في حين كان الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله على فراش الموت مريضا وكانت وفاته بعد أيام قليلة في يوم 11 من شهر المحرم عام 567 هجرية الموافق يوم 13 سبتمبر عام 1171م وهو في ريعان الشباب حيث كان عمره يناهز العشرين عاما ولتسقط بوفاته الدولة الفاطمية التي حكمت مصر لمدة مائتي عام تقريبا وتم تعيين صلاح الدين قائما على مصر من قبل نور الدين محمود وكان لدخول مصر تحت حكم دولة نور الدين محمود دوى هائل لا في مملكة بيت المقدس وحدها بل في الغرب الأوروبي كله وإرتفعت الأصوات لبعث حملة جديدة تعيد للصليبيين في الشام هيبتهم وسلطانهم وتوجه لمصر ضربات قوية غير أن حملتهم على مصر لم تحقق أهدافها ليقظة حاكمها صلاح الدين في مصر وهكذا فبنجاح نور الدين محمود في ضم مصر إلى جبهة الكفاح يكون قد حقق الحلقة الأخيرة من حلقات توحيد الجبهة الإسلامية تمهيدا للضربة القاضية ونعني بها تحرير بيت المقدس وطرد الصليبيين من بلاد الشام .
والآن فلنترك ميادين الجهاد والحروب التي خاضها نور الدين محمود من أجل توحيد الأمة الإسلامية ومحاربة الصليبيين ونذكر بعض من ملامح شخصيته ومناقبه فنجده كان يقول نحن شحن أى شرطة الشريعة نمضي أوامرها وقال أيضا نحن نحفظ الطريق من لص وقاطع طريق والأذى الحاصل منهما قريب أفلا نحفظ الدين ونمنع عنه ما يناقضه وهو الأصل وقال عنه المؤرخ إسماعيل بن كثير كان يقوم في أحكامه بالمعاملة الحسنة وإتباع الشرع المطهر والعدل وأظهر ببلاده السنة وأمات البدعة وعلاوة على ذلك فقد إعتنى نور الدين محمود بمصالح الرعية فأسقط ما كان يؤخذ من المكوس والضرائب التي كانت تؤخذ من الشعب وذلك عندما قص عليه وزيره موفق الدين خالد بن محمد بن نصر القيسراني الشاعر أنه رأى في منامه كأنه يغسل ثياب الملك نور الدين فأمره بأن يكتب منشورات بوضع المكوس والضرائب عن البلاد وقال له هذا تأويل رؤياك وكتب إلى الناس ليكون منهم في حل مما كان أخذ منهم قائلا لهم إنما صرف ذلك في قتال أعدائكم من الكفرة والذب عن بلادكم ونسائكم وأولادكم وكتب بذلك إلى سائر ممالكه وبلدان سلطانه وأمر الوعاظ أن يستحلوا له من التجار وكان يقول في سجوده اللهم إرحم المكاس العشار الظالم محمود الكلب وعلاوة على ذلك فقد أعطى عرب البادية إقطاعيات لئلا يتعرضوا للحجاج وقام بتحصين بلاد الشام وبنى الأسوار على مدنها وبنى مدارس كثيرة بها وبنى الخانات في الطرق وكان متواضعا مهيبا وقورا يكرم العلماء وكان فقيها على المذهب الحنفي فكان يجلس في كل أسبوع أربعة أيام يحضر الفقهاء عنده ويأمر بإزالة الحجاب حتى يصل إليه من يشاء ويسأل الفقهاء عما يشكل عليه وبالإضافة إلى ذلك أوقف نور الدين محمود كتبا كثيرة ليقرأها الناس وأيضا قال عنه المؤرخ عز الدين بن الأثير في عدله قد طالعت سير الملوك المتقدمين فلم أر فيهم بعد الخلفاء الراشدين الأربعة وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته ولا أكثر تحريا منه للعدل ووصفه أيضا إبن الأثير بأنه كان يتحرى العدل وينصف المظلوم من الظالم كائنا من كان القوى والضعيف عنده في الحق سواء فكان يسمع شكوى المظلوم ويتولى كشف ذلك بنفسه ولا يوكل ذلك إلى حاجب ولا أمير فلا جرم أن سار ذكره في شرق الأرض وغربها وكان هو أول من إبتنى دارا للعدل وكان يجلس فيها في الأسبوع مرتين وقيل أربع مرات وقيل خمس ويحضر القاضي والفقهاء من سائر المذاهب ولا يحجبه يومئذ حاجب ولا غيره بل يصل إليه القوى والضعيف فكان يكلم الناس ويستفهمهم ويتناقش معهم ويحاورهم ويخاطبهم بنفسه فيكشف المظالم وينصف المظلوم من الظالم وكان سبب ذلك أن أسد الدين شيركوه كان قد عظم شأنه عند نور الدين محمود حتى صار كأنه شريكه في المملكة والحكم وإقتنى الأملاك والأموال والمزارع والقرى وكان ربما ظلم نوابه جيرانه في الأراضي والأملاك وكان القاضي كمال الدين ينصف كل من إستعداه على جميع الأمراء إلا أسد الدين شيركوه هذا فما كان ينصف عليه أحد فلما علم نور الدين محمود بذلك إبتنى دار العدل لكي تكون دارا لمنح الحق لصاحبه حتى لو كان الذى عليه حق من الحكام والأمراء والأعيان فما كان من أسد الدين شيركوه إلا أن أصبح يلتزم بالعدل في تعامله مع العامة ولا يظلم منهم أحدا ولما جلس نور الدين محمود بدار العدل مدة متطاولة ولم ير أحدا يستعدى على أسد الدين شيركوه سأل القاضي عن ذلك فأعلمه بصورة الحال فسجد نور الدين محمود شكرا لله وقال الحمد لله الذى جعل أصحابنا ينصفون من أنفسهم .
وعن زهد وتدين نور الدين محمود نجده أنه كان يصلي كثيرا بالليل وحكي عنه أنه كان يطيل الصلاة وكان له أوراد في النهار فإذا جاء الليل وصلى العشاء نام ثم يستيقظ نصف الليل ويقوم إلى الوضوء والصلاة والدعاء وكان إذا بقي من الليل ثلث قام الحراس على قصره فأيقظوا أهل مدينة دمشق وأيقظوا العسكر يصلون كلهم في الليل حتى يأتي الفجر ثم إذا أصبح الصباح يظهر للركوب ويشتغل بمهام الدولة وهكذا فقد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره وجهاد يتجهز له ومظلمة يزيلها وعبادة يقوم بها وإحسان يوليه وإنعام يسديه فنور الدين محمود رحمه الله لم يأبه بأبهة الحكم والسلطان ولم يكن يتقاض راتبا من بيت مال المسلمين وإنما كان يأكل ويلبس هو وأهله من ماله الخاص ولم يكن له بيت يسكنه وإنما كان مقامه في غرفة في قلعة قد إشتراها من ماله الخاص يحل فيها عندما يعود من ساحة الجهاد وقال عنه أيضا المؤرخ إسماعيل بن كثير في البداية والنهاية كان نور الدين محمود حسن الخط كثير المطالعة للكتب الدينية متبعا للآثار النبوية محافظا على الصلوات في الجماعات كثير التلاوة محبا لفعل الخيرات عفيف البطن والفرج مقتصدا في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس حتى قيل إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه من غير إكتناز ولا إستئثار بالدنيا ولم يسمع منه كلمة فحش قط في غضب ولا في رضا صموتا وقورا وقال المؤرخ إبن الأثير لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز مثل الملك نور الدين محمود ولا أكثر تحريا للعدل والإنصاف منه وكانت له دكاكين بحمص قد إشتراها مما يخصه من المغانم فكان يقتات منها وزاد إمرأته من إيجارها على نفقتها عليها وإستفتى العلماء في مقدار ما يحل له من بيت المال فكان يتناوله ولا يزيد عليه شيئا ولو تعرض للموت جوعا وكان يكثر اللعب بالكرة فعاتبه رجل من كبار الصالحين في ذلك فقال إنما الأعمال بالنيات وإنما أريد بذلك تمرين الخيل على الكر والفر وتعليمها ذلك ونحن لا نترك الجهاد وكان لا يلبس الحرير وكان يأكل من كسب يده بسيفه ورمحه وكان نور الدين محمود أيضا يستقرض من الشيخ عمر الملا من الموصل وكان من الصالحين الزاهدين في كل رمضان ما يفطر عليه وكان يرسل إليه بفتيت ورقاق فيفطر عليه جميع أيام شهر رمضان وكان يدعو قائلا اللهم إنصر دينك ولا تنصر محمودا من الكلب محمود حتى ينصر وكان يدعو أيضا إنك يا رب إن نصرت فدينك نصرت فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر وبالإضافة إلى ما سبق عمل نور الدين محمود على تثبيت المذهب السني في مملكته ففي حلب كان بنو حمدان يعتنقون المذهب الإمامي وكان سعد الدولة أبو المعالي قد أضاف للأذان عام 367 هجرية الموافق عام 977م عبارة حي على خير العمل محمد وعلي خير البشر وإستمر الآذان على ذلك خلال عهود حكم آل مرداس وآل عقيل في حلب وكان هناك قلة من الشيعة الإسماعيلية الذين إزداد نفوذهم زمن رضوان بن تتش لذا كان المذهب الشيعي متغلغلا في حلب لذلك فقد قام نور الدين بأن أمر الشيعة بترك حي على خير العمل في الآذان وأنكر عليهم بشدة الجهر بسب الصحابة وكان ذلك في شهر رجب عام 543 هجرية الموافق شهر نوفمبر عام 1148م أي بعد عامين من دخوله حلب وإستقراره فيها فهاج الإسماعيلية لكن سرعان ما سكنوا خوفا من ردة فعل السلطان وقام بعد ذلك بإبعاد بعض زعماء الشيعة عن حلب ومنهم والد المؤرخ إبن أبي طي وأنشأ المدارس لتدريس العلوم الإسلامية إحداهما حنفية وهي المدرسة الحلاوية في عام 543 هجرية الموافق عام 1148م واسند التدريس فيها إلى برهان الدين أبي الحسن علي بن الحسن البلخي الذى إستدعاه من دمشق وأنشأ أيضا المدرسة النورية الكبرى والمدرسة النورية الصغرى والمدرسة النفرية النورية لتدريس المذهب الشافعي وتولى التدريس فيها قطب الدين النيسابورى والمدرسة العصرونية والمدرسة الشعيبية وكلتاهما مدارس شافعية أيضا كما أنه أوقف زاويتين بالمسجد الجامع في حلب وخصص إحداهما لفقهاء الحنابلة والأخرى للمالكية وأنشأ خانقاوات أي حجرات خاصة ملحقة بالمساجد غالبا لكي يتفرغ فيها الصوفيون للعبادة .
وفي الموصل رأى نور الدين محمود ما يعانيه المصلون من ضيق مسجدها الجامع فلم يكن بها مسجد جامع يجمع به سوى الجامع الأموى ولكن سكان البلدة كان قد زاد عددهم فأصبح المسجد يضيق بهم فأصبحت في حاجة إلى جامع جديد فامر ببناء جامع جديد عرف فيما بعد بالجامع النورى وفي مصر قام صلاح الدين الأيوبي بعزل قضاة الشيعة وألغى مجالس الدعوة وأزال أصول المذهب الشيعي الإسماعيلي وأحرق العديد من الكتب التي كانت تروج للمذهب الشيعي ثم أبطل الأذان بحي على خير العمل محمد وعلي خير البشر وأمر في يوم الجمعة العاشر من شهر ذى الحجة عام 565 هجرية الموافق يوم 24 من شهر أغسطس عام 1170م بأن يذكر في خطبة الجمعة الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ثم قطع الخطبة للخليفة الفاطمي وخطب للخليفة العباسي وفي دمشق والتي أصبحت عاصمته وأهم المدن في عهد نور الدين محمود زنكي فقد عني بإنشاء الكثير من المباني والمدارس والتي تحمل إسمه ومنها مدارس التعليم الشرعي للمذاهب الأربعة كما أسلفنا وبنى أيضا أول وأكبر دار للحديث ووكل أمرها إلى الحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر وبنى أيضا دورا للأيتام لتخريج العلماء وخصص لها الأوقاف الكثيرة والعديد من البيمارستانات في دمشق وغيرها من المدن ورمم سور دمشق وقام بتدعيمه بالأبراج العديدة والمنيعة التي منها برج نور الدين وموقعه جنوب باب الجابية كما أنه بنى حماما عموميا أصبح يعرف بإسم حمام نور الدين وهو يقع في منطقة البزورية بدمشق ويعتبر مبناه من أقدم حمامات المدينة وعلاوة على كل ما سبق كان لنور الدين محمود قصة عجيبة وهي قصة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتتلخص في أن بعض الناس من النصارى أرادوا الإعتداء على قبر الرسول عليه الصلاة والسلام وأخذ جثمانه الشريف وكان نور الدين محمود في عاصمته دمشق فرأى في المنام أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول أنقذني يا محمود فقام فسأل العلماء فقالوا قبره يؤذى عليه الصلاة والسلام فجهز جيشا عرمرما ودخل المدينة وطوقها بالجيش ودعا الناس إلى وجبة الغداء وقال من تخلف فإقتلوه فأتى الناس جميعا إلا مغربيين بقيا في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم متظاهرين بالعبادة وهما نصرانيين وتنكرا في لباس المسلمين فقال هل بقي أحد قالوا ما بقي إلا مغربيين قال علي بهما فلما أتي بهما فإذا هما كما رآهما في المنام بجانب الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقول أنقذني ويشير إلى الإثنين فسألهما ما شأنكما قالا عباد وزهاد فأمر الجنود أن يجلداهما بالسياط فجلدوهما فإعترفا فذهب فوجدهما قد حفرا تحت البساط إلى قبره عليه الصلاة والسلام فصب ما حول القبر قيل بالرصاص وقيل بالفضة فهو هناك إلى الآن ثم أمر بقطع رأسي المغربيين .
ولا يفوتنا هنا أن نتحدث عن العلاقات السياسية لنور الدين محمود مع الدولة البيزنطية فقد عاصر الإمبراطور البيزنطي عمانوئيل كومنينوس والذى كان سياسيا محنكا وراغبا في فرض السيطرة على العالم المسيحي وقد حرص نور الدين محمود على أن تتسم علاقته مع الإمبراطورية البيزنطية بالسلام والرغبة في تحييدها عن الصراع مع الإمارات الصليبية ببلاد الشام حيث حاول نور الدين محمود إستثمار الخلافات القائمة بين الإمبراطورية البيزنطية والإمارات الصليبية وفي المقابل أحسن الإمبراطور البيزنطي إستغلال الصراع القائم بين نور الدين محمود وهذه الإمارات الصليبية وبالتالي لصالحه حيث كانت تلك الإمارات تطلب دائما منه العون ومن ثم لا تغيب سطوته عنهم وبالإضافة إلى ذلك كان كل من نور الدين محمود والإمبراطور البيزنطي حريصين كل الحرص إلى تعزيز علاقة التبادل التجاري بينهما وقد حاول نور الدين محمود فض التحالف الذى حصل بين بلدوين الثالث وعمانوئيل في أنطاكية في عام 554 هجرية الموافق عام 1159م والذى كان هدفه توجيه جيش مشترك لضرب القوة النورية المتزايدة عن طريق عقد إتفاق تحالف مع الإمبراطور البيزنطي ينص على إطلاق نور الدين محمود للأسرى المسيحين لديه وعددهم ستة آلاف وكانوا معتقلين في حلب منذ الحملة الصليبية الثانية إضافة إلى تعهد نور الدين في مساعدة الإمبراطور في حروبه ضد سلاجقة الروم وفيما بعد قام نور الدين محمود بإطلاق سراح قسطنطينوس كالمنوس الذى أسره في معركة حارم كبادرة لحسن النية مع الإمبراطورية البيزنطية وتجنبا للعداء معها وجدير بالذكر أن بعض المؤرخين يرون أن فجوة حدثت بين صلاح الدين ونور الدين محمود بعد إستلام صلاح الدين الحكم في مصر وبدأت هذه الفجوة عندما تأخر صلاح الدين في الخطبة للخليفة العباسي في بغداد حتى هدده نور الدين بالمسير إليه كما أسلفنا وإزداد الخلاف بينهما في عام 567 هجرية الموافق عام 1172م وذلك عندما إتفقا على حصار الكرك وعاد صلاح الدين إلى مصر قبل أن يلتقي بنور الدين خوفا من أن يعزله هذا الأخير عن مصر متذرعا بالأوضاع الخطيرة في مصر فعظم الأمر على نور الدين حتى قرر المسير إلى مصر ولما علم صلاح الدين بذلك جمع مقربيه وشاورهم في الأمر فمنهم من نصح بمقاتلة نور الدين إلا أن والده وخاله منعوه من ذلك وطالبه والده بإرسال رسائل الإعتذار والتبرير لنور الدين إلا أن نور الدين قرر تسيير حملة إلى مصر لخلع صلاح الدين خاصة لما شاهد منه الفتور في محاربة الصليبيين إلا أنه توفي قبل ذلك وإستقل صلاح الدين الأيوبي بمصر وأسس بها الدولة الأيوبية وكان هو أول سلاطينها حيث كانت وفاة نور الدين محمود في يوم 11 شوال عام 569 هجرية الموافق 15 مايو عام 1174م بعد أن كان قد أصيب في أوائل شهر شوال من العام المذكور بذبحة صدرية وبقي على فراش المرض أحد عشر يوما ليتوفي في التاريخ المذكور عن عمر يناهز التاسعة والخمسين عاما من عمره ودفن في البيت الذى كان ملازما فيه في قلعة دمشق ثم نقل جثمانه فيما بعد إلى المدرسة النورية الواقعة في سوق الخواصين بدمشق رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وغفر له ما يكون قد بدر منه من الهفوات والزلات ونختم حديثنا عن نور الدين محمود بقول من أقواله وهو إني لأستحي من الله تعالى أن يراني مبتسما والمسلمون محاصرون بالفرنجة فكان يقاتل في سبيل الله في الغزوات ويجمع الغبار الذى إجتمع له من الغزوات والمعارك من ثيابه ومن خوذه وملابسه على فرسه وصنع منه لبنة أوصى بأن توضع عند رأسه في قبره لكي يتوسدها رضي الله عنه وأرضاه وكان من أقواله أيضا إن الله خلق الخلق وشرع لهم شريعة وهو أعلم بما يصلحهم ولو علم أن في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها لنا فلا حاجة بنا إلى الزيادة على ما شرعه الله تعالى فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصة فهو يكملها بزيادته وهذا من الجرأة على الله وعلى ما شرعه والعقول المظلمة لا تهتدى والله سبحانه يهدينا وإياكم إلى صراط مستقيم .
|