بقلم الدكتور/ محمود رمضان
خبير الآثار والعمارة الإسلامية
مدير مركز الخليج للبحوث والدراسات التاريخية
التاريخُ والآثارُ علمان متضامنان، بل يمكن القولُ إنه، ما من ترابطٍ بين علمٍ وعلمٍ آخر يعادلُ تلك العلاقةَ القائمةَ بين التاريخِ والآثارِ، إنهما الوجهان لقطعة عملة واحدة، ومن ثم لا غنى لأحدهِمِا عن الآخرِ.
إن دراسةَ الآثارِ من مجالاتِ البحث العلميِ التي تُعد أصدق قيلاً وأقوم دليلاً على إثباتِ التاريخ أو نفيه، فيجبُ على المؤرخِ إن يكون حريصاً على ألا يقدمَ إلا صورةً نقيةً أقربَ ما تكون إلى الحقِ والواقعِ، ويجبُ عليه ألا يتعجلَ في الأخذِ بكلِ ما يصادفه في المصادرِ من معلوماتِ والتقاطها والتهامها وكأنها حقائق صحيحة. فالمصادر تشكلُ المنبع الذي ينهل منه المؤرخ الحديث بصفةٍ عامةٍ العناصر الأولى التي يشّيدُ منها بناءهَ، والمصادرُ هي الأساس في الحكمِ على مدى صحةِ أي روايةٍ تاريخيةٍ ، وبقدر ما يتوافر للمصدرِ من صحةٍ واكتمالٍ، يكون البناءُ سليماًَ متماسكاً ومتكاملَ الأجزاء.
هذا وتعتمدُ الدراساتُ التاريخيةُ على العديدِ من المصادرِ التي يستقي منها المؤرخ مادتهَ التاريخيةَ، ومنها الوثائقُ بشقيهاِ غيرِ المنشورةِ والمنشورةِ، سواء كانت تلك الوثائقُ باللغة العربية أو غيرها، ويلي ذلك المصادرُ العربية التي تنقسم إلى مصادرَ مخطوطةٍ وأخرى مطبوعةٍ ، بالإضافةِ إلىِ كتابات الرحالةِ والجغرافيين والمستكشفين بصفةٍ عامةٍ ، وتلي ذلك أيضاً الأبحاثُ العربيةُ المنشورةُ بالمجلاتِ والدوريات العلميةِ المحكّمةِ والثقافيةِ، ثم الرسائلُ العلميةُ المخطوطةُ، والمعاجمُ التاريخيةُ واللُّغويةُ المتخصصةُ سواء القديمة أو الحديثة، والموسوعاتُ المختلفةُ، والخرائط ُالجغرافية والملاحيةُ القديمة أو الحديثة، ثم المصادرُ والمراجعُ الأجنبيةُ، وهي الكتبُ والبحوثُ التي كتبت بغيرِ اللغُةِ العربيةِ ، بالإضافةِ إلى التراث ِالشعبيِ والإرثِ الاجتماعيِ العام لكلِ أمةٍ من الأممِ.
وتأتي الآثارُ من أهمِ المصادر الثابتة كشاهدِ نفيٍ أو إثباتٍ لأقوالِ المؤرخين، باعتبارها الدليلَ الماديَ الشاخصَ للعيان الذي يثبتُ مدى تقدمِ عصرٍ من العصورِ وازدهارِ فتراتِ الحكمِ أو غير ذلك، وبلوغِ الثقافةِ منتهى المرام أو تخلفهُ.. والشواهدُ على ما نقول كثيرةٌ ومتنوعةٌ، والحقُ أن المشتغلَ بالتاريخِ الإسلاميِ لا يستطيعُ إن يكونَ مؤرخاً موفّقاً إلا إذا كان له إلمامٌ كبيرٌ بالمصادرِ الآثاريةِ على اختلافها ، وأن يُحسنَ استخدامَ النتائجِ التي يصلُ إليهاِ العديدُ من العلماءِ والباحثين في الآثار.
وتعدُ النقوشُ الكتابيةُ من المصادرِ الآثاريةِ والتاريخيةِ المهمةِ التي يصعبُ الطعنُ في قيمتهاِ أو التشكيكُ في أصالتهاِ ، فهي معاصرةٌ للحقائقِ والأحداثِ التي تسجلُها كما أنها محايدةٌ ُأيضا، فتعوضُ النقصَ وتسدُ الفراغَ في المصادرِ التاريخيةِ، كما أنها تمتازُ بأن تواريخَها صحيحةٌ ، وتفيدُ أيضا في مراقبةِ أقوالِ المؤرخينِ وإثباتِ صحِتها أو الكشفِ عن أخطائِها.
وعليه فإن كثيراً من الباحثين في التاريخِ يولون وجوههم شطر النقوش الآثارية للاستفادةِ منها في كتابةِ التاريخِ من كافةِ جوانبهِ، السياسيةِ والدينيةِ والاجتماعيةِ والاقتصاديةِ والعسكرية.
ومن هنا اشتدت رقابةُ أممِ العالمِ في السنواتِ الماضيةِ على ما تملُكه من نقوشِ وآثارِ، وأصبحتَ كلُ مخلفاتِ الماضي ُملكاً لكلِ دولةٍ، وأنه يجبُ تقويمُها ورعايتُها باعتبارِها كنوزاً عامةً، وقد أسعد الحظُ معظمَ البلدانِ الإسلاميةِ بأنها تملكُ نصيباً كبيراً من الموادِ الأثريةِ في العالمِ، وأشدَ تنوعاً منذ ما قبل التاريخ وحتى كل العهود الإسلامية.
والجدير بالذكر أن المستشرقينَ والعلماءَ الأجانبَ كانوا من الروادِ الأوائلِ في إبرازِ أهميةِ الآثارِ ونقوشِها كمصدرٍ لدراسةِ التاريخِ، فهم الذين خَطُوا للشرقِ خطواتِ البحثِ العلميِ، وأسهموا في وضعِ اللبناتِ الأولى له، وأرستْ أبحاثُهم دعائمَه على أسسِ متينةٍ سواءً في نشرِ النقوشِ وتصنيفِها أو دراستِها وإبرازِ قيمتِها. ولا يغيبُ عنا دورُ المؤرخينِ والرحالةِ المسلمينِ الذين كانوا من أوائلِ من أدركوا أهميةَ النقوشِ والآثارِ والخُططِ، فإنما نجد أنهم يتناولون آثاراً ونقوشاً قديمةً لا تزال باقية أو ُفقدتْ، وكانوا في الأخيرةِ يحددون مواِضعَها ويعطون لنا أوصافاً لها ويدققون في وَصْفِها، وتأتي الاكتشافاتُ الأثريةُ الحديثةُ لتثبتَ صحةَ أقوالِهم، وانهم رأوا هذه الآثارَ رؤيةَ العينِ، بل ونستطيعُ الجزم أن بعضَ هؤلاء الرحالةِ والمؤرخينِ كان يعرفُ لغةَ الأولين.
لقد حظيت العلاقةُ بين علمي التاريخ والآثار باهتمامِ كثيرٍ من العلماءِ والباحثينِ العربِ منذ الخمسين عاماً الماضية، لأننا في حاجة ماسة لتعريفِ الأجيالِ الحاضرةِ والقادمةِ بعلومِ وتراثِ هذه الأمةِ للوقوفِ أمام العناصرِ الحاقدةِ على الشرقِ العربيِ التي تتربص بنهضِته الكبرى، وتضّيِقُ عليه الخناقَ وتتلمس ثغرةً تنُفذُ منهِا لتضربَ ضرباتِها الخبيثةَ الماكرةَ.. ومكاُننا في الشرقِ العربيِ وواجُبنا المقدسُ يحتّمَان علينا اليقظةَ المستمرةَ والسهرَ الدائمَ على الاحتفاظِ بتراثِنا الخالدِ وأعمالِنا المجيدةِ وأمجادِنا الغراء، حتى تكونَ حافزاً لنا في بناءِ مستقبلٍ مشرقٍ لا يقلُّ روعةً وجلالاً عن ماضينِا العظيم.
هذا وتزخرُ دولةُ قطرَ بالعديدِ من المبانيِ التاريخيةِ والأثريةِ والمواقعِ المختلفةِ، والتي شهدت أحداثاً وفتراتٍ تاريخيةٍ متنوعةٍ تؤكد أصالـة هذا البلدِ وعمقه التاريخي، وإرثه الحضاري، وبالرغم من أن الباحثينِ لم يولوا اهتماماً كبيراً لدراسةِ العمارة والتراث في دولةِ قطر نظراً لصعوبةِ الحصول على المصادرِ التاريخيةِ وقلِتها، إلا أنه من حسنِ حظِّ هذا البلدِ أن يحتفظَ بالكثيرِ من تراثِه الحضاريِ والأثريِ العظيمين، والذي ما زالت نسبةٌ ليستِ بالقليلِة منه محل الدراسةِ والبحثِ والاستكشافِ.
ومن هذا المنطلق تأتي ضرورةُ قيامِ المؤرخِ بالإطلاع على المصادرِ الأثريةِ الثابتةِ والتي تتمثلُ في المبانيِ والعمائرِ التاريخيةِ والأثريةِ، بالإضافة إلى هندسة وعمارة الآبار والعيون ومصادر المياه بشكل عام بشبهِ جزيرةِ قطر، ومحاولةِ التدقيقِ فيها، بل ودراستها مع إجراءِ الربطِ والتحليلِ التاريخيِ الموضوعيِ لأسبابِ بناءِ تلك المنشآت وماهيتها المعمارية وعلاقتِها بالمنشآتِ المجاورةِ، بالإضافةِ إلى دراسةِ الوثائقِ التي قد تتوافرُ بدورِ الحفظِ الحكوميةِ أو الخاصةِ، والتي قد تردُ بها معلوماتُ ُ تاريخية عن الحركةِ العمرانيةِ في قطرِ، التي يوجد بها العديدُ من المنشآتِ الدينيةِ ، والتجارية، والخيريةِ، والدفاعيةِ والمدنيةِ.
ويمكن من خلال دراسة الوثائق المختلفة واللوحات الفوتوغرافيةِ القديمة، والطرز المعماريةِ والأثريةِ بشبهِ جزيرةِ قطر إثباتِ صحة العلاقةِ بين علميْ التاريخِ والآثارِ، وذلكِ من خلالِ البحثِ والتدقيقِ في الأحداثِ التي تتعلق ببعضِ العمائرَ الأثريةِ المندثرةِ والباقيةِ بالأراضيِ القطريةِ خلال الفترة الإسلاميةِ والحديثةِ والمعاصرةِ من تاريخِ قطر، ومنها آثارُ مدينةِ مُروبْ حيث أنشُئت هذه المدينة الأثرية، على غرارِ المدنِ الإسلاميةِ المبكرةِ مثل البصرة 14هـ/635م، والفسطاط 21هـ /641م، وأن كانت تتشابهُ مع المنشآتِ المدنيةِ والعسكريةِ وقصورِ الصحراءِ الأمويةِ في باديةِ الشامِ، بالإضافةِ إلى تعميرِ مدينةِ الزبارةِ المحروسة المحصنة التاريخية في سنةِ 1188هـ /1774م بشمالِ غربِ شبهِ جزيرة قطر، وحصن الحويلة المندثر سنة970 هـ/ 1562م، وقصر أو قلعة مدينةِ مُروبْ بشمالِ غربِ قطر، وقصرِ الحكمِ القديمِ (متحف قطر الوطني حالياً)، وقصري أو قلعتي أم صلال محمد المحصنين، أ: القصرُِ المحــصنِ الشمالي(1335هـ / 1916م)، ب: القصرُِ المحصنِ الجنوبيِ(1335هـ / 1916م )، وقلعة الفريحة المندثرة (1105 - 1111هـ / 1693 - 1699م )، بالإضافة إلى ذكر لبعض المساجد القديمة في قطر وعمارتها وتاريخيها. وبهذا الغنى المعماري والفني المهمين للعمارة والتراث في قطر، كان لا بد أن تكون مصدراً للإلهام الفني لكثير من المبدعين القطريين في المجالات المختلفة، والتي من الضروري التعرف إليها ومحاولة نشر الوعي الثقافي للحفاظ على التراث الوطني بدولة قطر.
الثقافة ماء الحضارات وروحها :
إن الحضارات لها عمر مثل عمر الأفراد والدول والمجتمعات، ولا بد أن تمر بثلاث مراحل، تتمثل المرحلةُ الأولى في النشأة والتكوين أو ما يعرف بمرحلة التأسيس والبناء، أما المرحلة الثانية فهي: القوة والازدهار والتقدم وتمثل الصبا والشباب بالنسبة للأفراد، والمرحلة الثالثة تمثل مرحلة الانحدار والانهيار، وتمثل الكهولة والهرم في عمر الإنسان. فعندما تستقر الحضارة في أمة من الأمم أو شعب من الشعوب لا يكفي أن يقوم على رعايتها علماء وهبوا أنفسهم للبحث والدرس، بل لا بد أن يكون إلى جانب هؤلاء العلماء المخلصين جنود ومال وعتاد وشخصيات تاريخية، قادرة على النهوضِ بالأرض والشعب والأمة. فالحضارة لا تموتُ كما يموت الأفراد لكنها عندما تعتريها الشيخوخة والضعف، تظل حيـةً تختبئ خلفها كنوز وتراث الأمم في بيئتها الحاضنة لها حتى يهيئ الله لها قوماً يحافظون عليها ويعملون لحمايتها، لتظل شمسُها ساطعةً أبد الدهر.
وبالمنهج العلمي والمنطقي للتفكير في الحياة من الضروري أن يدرك الإنسان حتمية الزمن ومراحلها المختلفة مثله مثل الحضارات في وجودها، نحن مطالبون بالمساهمة في إطالة عمرِ الحضارات وبقائِها كلٌ في مجاله، وتقاس قدرة مساهمتنا بما نقدمه لتفعيل دورنا وتوريثه لأبنائنا وأحفادنا، من إرث ثقافي وحضاري يساعد في بقاء مكنوناتنا الثقافية والحضارية لفترات أطول في التاريخ، ولكن لا بد أن نعي أننا سنمر بمرحلة ثالثة في الحضارات والثقافات، فليحاول كل منا إمعان التفكير والعقل في خدمة هذه الفرضية بالثقافة والعلم حتى نضع لبنةً في صنع حضارتنا وثقافتنا العربية والإسلامية في الوقت الحاضر، حتى نترك للأجيال القادمة برهة من الزمن ليعيشوا في حضارة قوية، تاجُها مرحلة الازدهار والتقدم لا الضعف والانهيار. فالثقافة ماء الحضارات وروحها التي يجمع ويصهر فيها الإنسان عبر تاريخه كل ثقافات الشعوب والأقوام ويقدمها في بناء معرفي يخدم به إرثه الحضاري والمعماري، ليوصل لمن يأتي بعده تراثاً مزدهراً قوياً، فالنهضة العلمية لا تزدهر إلا في دولة قوية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
وتتمتع دولة قطر الناهضة، بثراء معرفي وثقافي وحضاري مهم، تألق هذا الإرث الثقافي في عهد حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر المفدى الذي واصل المسيرةَ، وانطلق إلى آفاقٍ أرحبَ على مستوى البناء الداخلي والعلاقات العربية والإسلامية والدولية.
وهكذا سارت دولة قطر عبر تاريخها بأسلوب سلمي وهادئ بقيادةٍ واعيةٍ مدركةٍ لمسئوليتها تجاه شعبها العربي المسلم المتطلع لمزيد من التنميةِ والتقدم، والملتـف حــول قيادته والمقدّر للجهود التي بذلت في هذا المجال، فانطلقت قطر ببناء داخلي قوي في جميع النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والتعليمية، قادها حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر المفدى عبر سنوات الحياة المتكاملة، كما قاد سياسةً خارجيةً متزنةً، ومرتبطةً بالأمةِ العربيةِ والإسلاميةِ ومتعاونةً مع المجتمع المدني العالمي.
وما تشهده قطر حالياً من نهضة شاملة ومتميزة، هي مسيرة جديدة رسم خططها وملامِحها حضرةُ صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني أمير دولة قطر المفدى، من خلال وعيٍ عميقٍ، ورؤيةٍ استراتيجيةٍ مدركة لما تتطلبه هذه المرحلة، والدور الرائد لقطر فيها، وتحقيق الركائز الأساسية لبناء الإنسان القطري. وتستمر المسيرة القطرية في تاريخها الحديث والمعاصر، فالمسيرة مستمرة ومتصلة، فهي مسيرة عطاء وجهد متصل من أجل المجتمع القطري الناهض، الذي يتحمل مسئوليةَ البناء بروحٍ واعيةٍ، مُقدرةً عِظمَ المسئولية، ومُؤمنةً بقيادتها التاريخية.
|