بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
السلطان جلال الدولة ملكشاه بن السلطان ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سَلْجوق بن دقاق والملقب بأبي الفتح هو ثالث سلاطين الدولة السلجوقية التي تأسست علي يدى أبي طالب محمد طغرل بك في عام 429 هجرية الموافق عام 1037م بعدما إستولى على مدينة مرو وهي بدولة تركمانستان حاليا وخطب له على منابرها وتسمى بملك الملوك ثم خلفه إبن أخيه السلطان ألب أرسلان والذى يعد أحد أهم قادة المسلمين وكبار رجال التاريخ وصاحب الإنتصار الخالد على الروم في معركة ملاذكرد الشهيرة في شهر أغسطس عام 1071م بالقرب من مدينة ملاذكرد والتي تقع في محافظة موش بشرقي تركيا حاليا وكان النصر فيها من نصيب السلاجقة المسلمين وكانت للهزيمة الساحقة التي لحقت بالجيش البيزنطي وأَسر الإمبراطور البيزنطي رومانوس الرابع ديوجينيس دورا مهما في إضعاف وضعضعة الحكم البيزنطي في إقليم الأناضول وأرمينية ومن ثم تمكن السلاجقة من مد نفوذهم في إتجاه إقليم الأناضول وقد عرف هذا السلطان بإسم ألب أرسلان ومعناها بالتركية الأسد الباسل وقد لقب بسلطان العالم أو بالسلطان الكبير أو الملك العادل وقد بلغ حدود حكمه من أقاصي بلاد الشام إلي أقاصي بلاد ما وراء النهر فيما يعرف اليوم بأفغانستان وأجزاء واسعة من إيران وطاجيكستان وتركمانستان وأوزباكستان وقرغيزيستان وأجزاء من كازاخستان وباكستان ورغم عظم مملكته إلا أنه كان تابعا للخلافة العباسية وبعد وفاته خلفه إبنه السلطان ملكشاه والذى بلغت مدة سلطنته عشرين عاما إتسعت الدولة خلالها إتساعا عظيما حيث إمتدت من كاشغر في أقصى المشرق على حدود الصين حيث توقفت الفتوح الإسلامية إلى بيت المقدس في الغرب وبهذا فقد كانت تشمل كامل الجزء الإسلامي من قارة آسيا عدا الجزيرة العربية ودول جنوب شرق آسيا وقيل إن الدولة في عهد السلطان ملكشاه كانت تنعم بالأمان والإستقرار حيث أنه كان من أفضل السلاطين سيرة وأن القوافل كانت تعبر من أقصى المشرق إلى الشام في عهده آمنة مطمئنة دون التعرض إلى أى هجوم أو أذى وكان ميلاد السلطان ملكشاه في يوم 9 من شهر جمادى الأولى عام 447 هجرية الموافق يوم 16 أغسطس عام 1055م وتربى في كنف أبيه والذى أعده إعدادا ملكيا ودربه تدريبا سلطانيا مثلما أعده أبوه جغرى بك الذى كان حاكما على خراسان وقد ساعده على ذلك وزيره قوام الدين نظام الملك الذى كان من أشهر وألمع وزراء السلاجقة والذى لم يكن وزيرا لامعا وسياسيا ماهرا فحسب بل كان أيضا داعيا للعلم والأدب محبا لهما وقد رغب السلطان ألب أرسلان ووزيره نظام الملك الإبن ملكشاه في دراسة العلوم ومرناه على المثابرة والجلد في الحروب وبهذا تعاون الوالد والوزير معا على تهيئته لعرش آل سلجوق ولم يكتف والده بتدريبه النظرى كما يربى معظم أبناء الملوك وإنما أنزله الميادين وأشركه في القتال حتى تمرن على الحرب وعرف خططها وخدعها وكذلك أراد له أن يتعلم أصول الحكم وتدبير شئون الرعية بالممارسة العملية فمنحه حكومة كيلان وهي مدينة تقع إلى الشرق من ا لعاصمة الإيرانية الحالية طهران وأصدر بذلك منشورا وقبل وفاة أبيه في يوم 10 ربيع الأول عام 465 هجرية الموافق يوم 29 نوفمبر عام 1072م بعدما طعنه قبل اليوم المذكور بعدة أيام رجل من أتباعه يقال له يوسف الخوارزمي وكان السلطان ألب أرسلان قد سار في ذلك الوقت في مائتي ألف مقاتل وكان يصحبه إبنه ملكشاه يريد غزو الأجزاء التي لم تدخل في دولته من بلاد ما وراء النهر وهي البلاد التي يفصلها نهر جيحون عن إقليم خراسان وهو الإقليم المتسع الممتد حاليا في شمال غرب دولة أفعانستان وبدولة تركمانستان وبإيران وتقع هذه البلاد وراء النهر المذكور من جهة الشرق والشمال وتعرف الآن بإسم آسيا الوسطى الإسلامية وتضم خمس جمهوريات إسلامية كانت خاضعة للإتحاد السوفيتى السابق ثم من الله عليها فإستقلت بعد إنهياره بداية من عام 1991م وهذه الجمهوريات هي أوزباكستان وطاجيكستان وكازاخستان وتركمانستان وقرغيزيستان وهذا النهر المذكور يمثل حاليا الحد الفاصل بين كل من دول أفغانستان وطاجيكستان وأوزباكستان ويصب في الساحل الجنوبي لبحر آرال وهو بحر داخلي يقع بين كازاخستان شمالا وأوزباكستان جنوبا .
وكان يوسف الخوارزمي هذا قد أتي بأشياء أثارت حفيظة السلطان عليه فأوقف بين يديه فشرع يعاتبه في تلك الأشياء التي صدرت منه ثم أمر أن يضرب له أربعة أوتاد ويصلب بينها فقال للسلطان يا مخنث أمثلي يقتل هكذا فغضب السلطان غضبا شديدا من هذا القول وأمر بإرساله وأخذ القوس فرماه بسهم فأخطأه فأقبل يوسف مسرعا نحو السلطان فنهض السلطان عن سرير ملكه ونزل عنه فتعثر ووقع فأدركه يوسف فطعنه بخنجر كان في يده في خاصرته فجرح السلطان جرحا خطيرا وأدرك بعض الجند طاعنه فقتلوه وتوفي السلطلان بسبب هذا الجرح بعد أيام في التاريخ المذكور وقبل وفاة السلطان ألب أرسلان على أثر هذا الجرح أمر قواده ووزيره نظام الملك بمبايعة إبنه ملكشاه الذى كان قد بلغ من العمر 18 عاما وعين وزيره نظام الملك وصيا عليه وطلب من الكل إحترامهما وطاعة أوامرهما وبناءا على توصية والده السلطان ألب أرسلان إجتمع قواد الجيش وأعيان الدولة لإجراء مراسم الجلوس وبايعوا السلطان ملكشاه وبعد تنصيبه ومبايعته في خطاب العرش حينما طلب إليه الوزير نظام الملك أن يتكلم قال الأكبر منكم أبي والأوسط أخي والأصغر إبني وسأفعل معكم ما لم أسبق إليه فأمسكوا فأعاد القول فأجابوه بالسمع والطاعة وهي كلمة تدل على نزعته العادلة وإمتثاله الآداب الإسلامية وقد تكون من وضع الوصي عليه الوزير نظام الملك كما تولى هو وأبو سعد المتولي أخذ البيعة له من الأمراء والوجهاء وأطلق الأموال عليهم لذلك أجمعت المصادر التاريخية على أن الوزير نظام الملك لعب دورا كبيرا في تنصيب السلطان الجديد ملكشاه كما كان له الفضل الأكبر في إرساء دعائم الدولة وإنتصاراتها الحربية والفكرية والعقائدية على طائفة الشيعة الباطنية والفلاسفة وذلك بإهتمامه الكبير بعلماء أهل السنة ونشر المدارس نظام الملكية نسبة إليه في أرجاء الدولة السلجوقية مما كان له فضل كبير في حفظ منهج أهل السنة ودحر المد الشيعي الباطني وعموما فبعد مبايعة القادة والجند لملكشاه عبر بهم نهر جيحون راجعا إلى عاصمته الرى وحدث أن خرج عليه أعضاء أسرته مطالبين بالعرش وكان أول هؤلاء وأشدهم بأسا وأقواهم عمه حجة قاروت ملك كرمان وهي بوسط إيران ولم يكن يخفى عليه أن النصر لا يكون له إلا إذا كسب الجيش وربح مؤازرته فإستمال القواد والجنود بزيادة رواتبهم وتحسين حالتهم إذا أتى إلى الحكم فقامت بذلك مظاهرتهم مطالبين بمجئ قاروت إلى العرش وأحقيته بالسلطان وكتب إلى إبن أخيه في نفس الوقت يقول إني أحق منك بالعرش لأني الأخ الأكبر للسلطان الراحل وأنت أصغر أبنائه وسار بجيشه إلى العاصمة الرى وقد أدرك نظام الملك خطورة هذه الفتنة وشدتها وأنها تهدد عرش السلطان ومنصب وزيره وأنها ستقضي عليهما وعلى أهدافه إذا كتب لها النصر فقرر الإسراع بجيشهما نحو الرى حتى بلغها قبل وصول قاروت بك وأجاب على رسالة هذا الأخير بأن الإبن أحق بالعرش من الأخ فإلتقوا بقرب همذان بشمال غرب إيران فإنكسر جمعه وأتي بعمه أسيرا فوبخه فقال أمراؤك كاتبوني وأحضر خريطة فيها كتبهم فناولها لنظام الملك ليقرأها فرماها في منقل نار ففرح الأمراء وبذلوا الطاعة وأدخل قاروت السجن ولكن ما أدخله في روع الجنود من زيادة رواتبهم كان لم يزل يدفعهم إلى التظاهر والعصيان والتهديد بمبايعة الأمير السجين إذا لم تلب طلباتهم وأحس نظام الملك بحرج الموقف ودقته وأنه لا بد أن يتخذ رأيا حاسما لوقف النزاع فوافق رؤساء الجيش على مشروعية مطالبهم ووعدهم بأنه سيحدث السلطان ويقنعه بتنفيذها وهدأت الأحوال وذهب لمقابلة السلطان وأخبره بما إنتهى إليه الحال وأشار عليه كما يذكر معظم المؤرخين بقتل عمه في الحال فأصدر السلطان أمره وقتله وما إن عاد رؤساء الجيش ليستفسروا عما تم بخصوص مطالبهم حتى فاجأهم الوزير نظام الملك بأنه ما إستطاع مفاتحة السلطان بأمرهم حيث وجده حزينا على فقد عمه الذى إمتص السم من خاتم في أصبعه ومات في السجن فعادوا واجمين خائفين ولم يستطع أحدهم القيام بحركة عصيان وبذلك إستتب الأمن في البلاد وإستقرت القواعد للسلطان وإستمرت بعد ذلك شفاعات ووساطات نظام الملك تترى على السلطان في طلب الصفح عن من خرجوا عليه بعد إعتذارهم وأعيدوا إلى مقر وظائفهم وإتخذ وسيلة جديدة هذه المرة في سياسته الحربية كان فيها رسول سلام بداية من عام 467 هجرية الموافق عام 1075م وحتى عام 473 هجرية الموافق عام 1081م حيث خرج على السلطان أخوه تكش بعد أن إلتحق بجيشه الجنود الذين فصلهم من الخدمة العسكرية خلافا لرأى وزيره نظام الملك وكان ببوشنج إحدى مدن إقليم خراسان وإستولى على مرو الشاهجان وهي بدولة تركمانستان حاليا فسار السلطان إلى خراسان ودخل مدينة نيسابور قبل أن يصلها أخوه ثم إلتقيا بترمذ وهي بدولة أوزباكستان حاليا وإصطلحا في نفس العام عام 473 هجرية الموافق عام 1081م .
وما أن تخلص السلطان ملكشاه من فتنة عمه حتى زحف نحو سمرقند وعبر نهر جيحون عام 467 هجرية ليأخذ بثأر أبيه من البلاد التي إغتيل فيها ولكنه لم يصل إليها حتى هرب حاكمها خاقان البتكين فتوسط له نظام الملك وأجيب لذلك وبذلك إتسعت على ملكشاه المملكة وملك ما لم يملكه أحد من ملوك الإسلام بعد الخلفاء المتقدمين فكان في مملكته جميع بلاد ما وراء النهر وبلاد الهياطلة وهي تحتل جزء من أفغنستان حاليا وتمتد جنوبا إلى باكستان وإلى أجزاء من شمال الهند وغربا إلى بلاد الصغد وهي أوزباكستان حاليا وباب الأبواب أو دربند على الساحل الغربي لنهر قزوين وبلاد الروم وديار بكر بإقليم الأناضول والجزيرة الفراتية والعراق والشام وخطب له على جميع منابر الإسلام سوى بلاد المغرب حيث ملك كما أسلفنا من كاشغر على حدود الصين شرقا إلى بيت المقدس غربا وبعد هذه الخطوة إنصرف السلطان ملكشاه إلى إكمال ما بدأه أبوه من الفتوح وبسط نفوذ دولة السلاجقة حتى تشمل جميع أنحاء العالم الإسلامي فولى وجهه أولا شطر بلاد الشام وكان قد دخلها في عهد أبيه حتى وصل إلى بيت المقدس عام 463 هجرية الموافق عام 1070م وإستطاع أن يضم إلى دولته معظم بلاد الشام وأرسل جيشا للإستيلاء على مصر فتوغل في أراضيها حتى بلغ القاهرة وحاصرها غير أنه فشل في فتحها لإستماتة الفاطميين في الدفاع عنها وإرتد عائدا إلى الشام ولم يفكر في غزو مصر مرة أخرى وحرص على تأمين بلاد الشام بعد إنتزاعها من الفاطميين فأسند حكمها إلى أخيه تاج الدين تتش في عام 470 هجرية الموافق عام 1077م وفوضه فتح ما يستطيع فتحه من البلاد المجاورة وضمها إلى سلطان السلاجقة وفي الوقت نفسه عين سليمان بن قتلمش على البلاد التي فتحها السلاجقة في آسيا الصغرى ويعد سليمان هذا هو المؤسس الحقيقي لدولة سلاجقة الروم فيما بعد التي شاء لها القدر أن تكون أطول عمرا من الدولة السلجوقية الأم فقد ظلت تحكم حتى عام 700 هجرية الموافق عام 1300م وقد نجح سليمان بن قتلمش بالفعل في فتح أنطاكية عام 477 هجرية الموافق عام 1084م وهي تعد من بلاد الشام لكنها كانت تحت حكم الروم منذ عام 358 هجرية الموافق عام 969م وبعد أن فرغ ملكشاه من إقرار الأمن وبسط النفوذ في الجزء الغربي من دولته رحل إلى بغداد حيث توطدت عرى الصداقة بينه وبين الخليفة العباسي المقتدى بأمر الله بعد أن تزوج إبنة ملكشاه في عام 480 هجرية الموافق عام 1087م فإزداد نفوذ السلاجقة قوة وإستقرارا ثم تهيأت الفرصة لملكشاه أن يخضع إقليم ما وراء النهر فإنتهزها على الفور وتجاوزه إلى إقليم كاشغر حيث خضع له واليه وبذلك بلغ ملك السلاجقة أقصى إتساعه فشمل حدود الهند شرقا إلى البحر المتوسط غربا وضم تحت لوائه أقاليم ما وراء النهر وإيران وآسيا الصغرى والعراق والشام وبلغ من نفوذ الدولة وقوتها أن ظل قياصرة الروم يقدمون الجزية المفروضة عليهم بعد معركة ملاذكرد إلى ملكشاه كل عام دون تأجيل أو تسويف وفي سبعينيات القرن العاشر الميلادى فتحت جورجيا مرتين من قبل السلطان ملكشاه لكن الملك الجورجي جورج الثاني كان لا يزال قادرا على القتال في بعض الأحيان وفي عام 1076م إندفع ملكشاه إلى جورجيا وحول العديد من المستوطنات إلى أنقاض وبسط سيطرة السلاجقة على المنطقة لتصل إلى أقصى إتساعها بداية من عام 472 هجرية الموافق عام 1079م فصاعدا وتم الضغط على جورج الثاني للإستسلام لملكشاه لضمان درجة ثمينة من السلام مقابل جزية سنوية وواصلت قبائل الترك السلجوقية حركتهم الموسمية إلى الأراضي الجورجية للإستفادة من الأعشاب الغنية في وادي كورا ولحصول الحاميات السلجوقية على القلاع الرئيسية في جنوب جورجيا تم تحويل الأراضي المزروعة إلى مراع وإضطر الفلاحون الجورجيون إلى الإنسحاب إلى الجبال .
وفي جبهة الشام أرسل ملكشاه خلال عهده جيشه مرتين متتاليتين لحصار مدينة حلب والإستيلاء عليها لكنه فشل فتحرك جيشه الذى كان يقوده أخوه تاج الدولة تتش جنوبا وفتحت حماة ودمشق وأظهر حاكم حمص الطاعة له فتركه حاكما وفي إقليم الأناضول كان قتلمش بن أرسلان بابغو قد خاض عدة حروب ضد إبن عمه ألب أرسلان على عرش سلطنة دولة السلاجقة العظام وبعد أن توفي قتلمش فر سليمان إبنه مع أخوته الثلاث إلى جبال طوروس وهناك لجأوا مع بعض القبائل التركمانية ليعيشوا على طول حدود الإمبراطورية وقام السلطان ألب أرسلان بإرسال حملات ضدهم مما أدى إلى موت جميع أشقائه ولينجو فقط سليمان من جراء هذه الحملات مما عزز من قيادته لتلك القبائل التركمانية مما شجعه على أن يؤسس دولة سلجوقية مستقلة في الأناضول فيما عرف بدولة سلاجقة الروم وحكم في الفترة الممتدة ما بين عام 1077م إلى عام 1086م جاعلا عاصمته في نيقية والتي تقع على شاطئ الأناضول الغربي على بحر مرمرة وتسمى حاليا إزنيق وحاول التوسع في إقليم بيثينيا وهي منطقة قديمة تقع في شمال غرب الأناضول وتجاور بحر مرمرة والبوسفور والبحر الأسود بل إن بعض قبائل الترك حاولت إجتياز بحر مرمرة إلى الشاطئ الأوروبي غير أن الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس إستطاع أن يطردهم من بعض المواقع التي سيطروا عليها على الضفة الشرقية للبحر المذكور لكنه لم يلبث أن إضطر إلى مهادنتهم لكي يتفرغ إلى محاربة النورمان الزاحفين عبر البلقان فإعترف بسيطرة السلاجقة على مجموعة من البلاد التي إفتتحوها وتنازل عن أُخرى أيضا لقاء أن يعينه سليمان بن قتلمش في حربه ضد النورمان وأن يقدم إليه سبعة آلاف مقاتل وإضطر الإمبراطور لاحقا أن يتفاهم مع سليمان مجددا لما تبين له أن إسترداد البلاد التي إفتتحها المسلمون صعب للغاية بعد أن إنتشرت فيها قبائل الترك إنتشارا كبيرا فأذن لسليمان أن يتولى بالنيابة عن بيزنطة إدارة قيليقية بجنوب الأناضول والممتدة على الساحل الشمالي للبحر المتوسط وأنطاكية التي تقع شمالي سوريا على الضفة الشرقية لنهر العاصي وملطية التي تقع شرقي الأناضول على أن يضبط أتباعه وبذلك أضحى سليمان بن قتلمش يسيطر على أهم طريقين يجتازان إقليم الأناضول من الشرق إلى الغرب وجاور أملاك السلطان ملكشاه في الشام وفي الجزيرة الفراتية .
ولم يلبث سليمان بن قتلمش أن تطلع بعد أن حل مشكلات السلطنة مع الإمبراطورية البيزنطية إلى التمدد نحو الجنوب إذ لم يستطع السكوت على إزدياد نفوذ الإمارة الأرمينية التي أسسها أحد القادة السابقين في الجيش البيزنطي وترجمان الإمبراطور المدعو الفلادروس بركاميوس في قيليقية وشمالي الشام وبخاصة أنها إعترضت طريق توسع سلاجقة الروم نحو الشام وهو الهدف الذى وضعه سليمان بن قتلمش نصب عينيه ويذكر أن الفلادروس شاب إعترافه بحكم ألكسيوس كومنين بعض الحذر مما دفعهُ إلى أن يبذل الولاء لأُمراء حلب المسلمين وللسلطان ملكشاه حتى يؤمن على سلامة ممتلكاته ويؤكد المؤرخ عز الدين بن الأثير أن هذا الأمير الأرمني إجتمع بالسلطان ملكشاه وأسلم على يديه وأن هذا الأخير أمره على الرها بالجزيرة الفراتية فلم يزل بها حتى مات ويذكر ميخائيل السرياني أن الفلادروس كان مستعدا إذا إقتضى الأمر لإعتناق الإسلام في سبيل خدمة مصالحه الخاصة ومهما يكن من أمر فقد أزعج تقارب الفلادروس وملكشاه سليمان وعده موجها ضده فضلا عن أنه يحد من أطماعه لِذلك قرر القضاء على تلك الدولة الناشئة وحدث أن غادر الفلادروس أنطاكية في عام 477 هجرية الموافق عام 1084م على أثر إنتفاضة شعبية قامت بها ضد حكمه وترك فيها حاميةً عسكرية قليلة العدد وإنتهز أعداؤه وبصفة خاصة إبنه الذى كان قد سجن بأمر أبيه فُرصة خروجه منها وإتفقوا على تسليم البلد إلى سليمان بن قتلمش وكاتبوه يستدعونه فركب في ثلاثمائة فارس وكثير من الرجالة وسار عبر قيليقية وضم في طريقه عدة مدن من بلاد الثغور الشامية مثل أضنة والمصيصة وعين زربة وما إن وصل أمام أسوار أنطاكية حتى ضرب معسكره ثم نصب السلالم عليها وصعد إلى السور حيث إجتمع بِالحامية ورتب أمر دخول الجيش وفعلا دخل الجنود السلاجقة إلى المدينة بعد أن فُتحت لهم الأبواب في شهر شعبان عام 477 هجرية الموافق شهر ديسمبر عام 1084م لكنهم جوبهوا بمقاومة من بعض السكان فقاتلهم سليمان وأخضعهم وتسلم قلعة البلد ثم نادى بالأمان وحرم على جنوده التعرض لأحد من السكان في أنفسهم وأموالهم كما منعهم من مصاهرتهم فإطمأن له الأهالي وأحسن هو لهم وشاع عدله فيهم وبالأخص بين النصارى فأحبوه ولم يلبث سليمان أن كتب إلى السلطان ملكشاه يعلمه بملكه المدينة وبأنه سامع مطيع لأوامره وأنه لا يرغب في الخروج عليه فأظهر ملكشاه البشارة بذلك وأقر سليمان على ملك البلاد التي ضمها لسلطنته وبعد توطيد مركزه في أنطاكية أخذ سليمان بداية من عام 472 هجرية الموافق عام 1079م يعمل على التمدد في إتجاه المناطق التابعة لإمارة حلب العقيلية تمهيدا لِلإستيلاء على حلب نفسها وإنضم إليه وهو في أنطاكية عدد من الأُمراء المرداسيين وبعض عساكر شرف الدولة مسلم بن قرواش العقيلي أمير حلب الذين شجعوه على ضم المدينة المذكورة إلى ملكه كما راسل أهل حلب مسلم بن قرواش العقيلي لكي يخلصهم من محمود المرداسي فأتى إلى حلب وإستولى عليها وأسقط بهذا الدولة المرداسية مقيما مكانها الدولة العقيلية وراسل مسلم السلطان السلجوقي وأعلن له الولاء وعرض إرسال مبلغ من المال كل شهر مقابل إبقائه حاكما لحلب فوافق السلطان ملكشاه .
وكانت سيطرة سليمان على أنطاكية قد سببت تهديدا لوضع شرف الدولة إذ أن الأول إتخذ من مدينته الجديدة قاعدة إنطلاقٍ للسيطرة على الحصون المجاورة طوعا أو كرها ووضحت نيته في ضم حلب بدليل أنه جند جماعةً من بني كلاب وأرسلهم مع عسكره للإغارة على حلب وسرمين وبزاعة وسعى شرف الدولة إلى فتح باب الحرب مع سليمان فكتب إليه أن يدفع له الجزية التي كان الفلادروس يحملها له بصفته تابعا ويخوفه في الوقت نفسه من معصية السلطان فرد سليمان قائلا أنه مسلم لا جزية عليه وأن شعاره طاعة السلطان ملكشاه وأنه يخطب بإسمه على المنابر في بلاده فما كان من شرف الدولة إلا أن أغار على ضاحية أنطاكية ونهبها فرد سليمان بمهاجمة ضاحية حلب وفي يوم السبت 23 صفر عام 478 هجرية الموافق يوم 20 يونيو عام 1085م إلتحم الطرفان في رحى معركة طاحنة على مقربة من نهر عفرين أسفرت عن إنتصار سليمان وأتباعه وقُتل شرف الدولة ثم سار سليمان إلى ظاهر حلب فضرب الحصار عليها وهو يتوقع أن تستسلم له بعد مقتل أميرها لكن شيئا من هذا لم يتحقق فبرز أحد أشراف المدينة وهو حسن بن هبة الله الحتيتي وتسلم أُمور البلد ورفض تسليمها وأصر على المقاومة ولما كان يفتقر إلى المقومات الضرورية للتصدى لسلاجقة الروم ومقاومة حصار قد يطول أمده فقد أرسل إلى السلطان ملكشاه يعلمه بمصرع شرف الدولة ويدعوه للقدوم إلى حلب ليستلمها فإستجاب ملكشاه لطلب الحتيتي وخرج على رأس قُواته بإتجاه المدينة لكن تحركه كان بطيئا مما أعطى الفرصة لسليمان لتشديد حصاره حول حلب وإضطر الحتيتي تحت ضغط الأحداث إلى مراسلة تاج الدولة تتش الأول شقيق السلطان ملكشاه وصاحب دمشق يستدعيه ويعده بتسليم المدينة له فإغتبط بإستدعاء الحلبيين له وطمع في ملك المدينة فسار حتى قابل جيش سليمان في موضعٍ يعرف بعين سليم بين أنطاكية وحلب ودارت بينهما معركة طاحنة أسفرت عن إنكسار سلاجقة الروم ومقتل زعيمهم ومؤسس دولتهم سليمان بن قتلمش قرب أنطاكية عام 1086م وقام تتش أيضا بالقبض على إبنه قلج أرسلان الأول والذى ظل سجينا لدى السلطان ملكشاه حتى توفي هذا الأخير وعلى أى حال فبناءا على هذه الأحداث ففي النهاية ضمت الأناضول إلى حكم السلطان ملكشاه ومن غير الواضح ما إذا كان تتش الأول قد قتل سليمان بن قتلمش بدافع الولاء لملكشاه ببساطة للمنفعة الشخصية أم لا وإستدعى تتش السلطان ملكشاه لكي يتسلم حلب فجاء من المشرق وتسلم حلب التي تركها تتش وعاد إلى دمشق وقد سيطر السلطان ملكشاه أيضا خلال هذه الحملة على اللاذقية وبضعة مدن أخرى .
ومن جانب آخر كان من المشاكل والأزمات التي واجهها السلطان ملكشاه ظهور حركة جديدة في المشرق في أواخر القرن الخامس الهجرى هي جماعة أو طائفة الحشاشين أو الدعوة الجديدة كما سموا أنفسهم والذين إستولوا على قلعة ألموت عام 483 هجرية الموافق عام 1090م وهي طائفة شيعية إسماعيلية نزارية باطنية أسسها الحسن بن الصباح إنفصلت عن العبيديين الفاطميين في أواخر القرن الخامس الهجرى الموافق للقرن الحادى عشر الميلادى لتدعو إلى إمامة نزار المصطفى لدين الله ومن جاء مِن نسله وإشتهرت ما بين القرن الخامس والقرن السابع الهجريين الموافقين للقرن الحادى عشر والقرن الثالث عشر الميلاديين وكانت معاقلهم الأساسية في بلاد فارس وفي الشام بعد أن هاجر إليها بعضهم من إيران فحاول ملكشاه أن يرسل إليهم دعاة من أجل إعادتهم إلى المذهب السني لكن لم تنجح هذه المحاولة فأرسل في عام 485 هجرية الموافق عام 1092م جيشا ليحاصر قلعتهم لكنه هزم مجددا فقرر السلطان ملكشاه أن يتجاهل هذه الحركة على الرغم من تحذيرات وزيره نظام الملك الكثيرة منهم وعلى أى حال فلم يملك ملكشاه وقتا طويلا لمقاومة هذه الحركة لأنه توفي بعد حوالي عامين وترك دولة يتنازعها أولاده فيما بينهم وعلاوة على ظهور جماعة الحشاشين فقد أخذت علاقة ملكشاه بالخليفة العباسي المقتدى تسوء شيئا فشيئا وكانت البداية تعود إلى سوء التفاهم الذى وقع بين المقتدى وزوجته خاتون إبنة السلطان ملكشاه والتي كان قد تزوج منها في عام 480 هجرية الموافق عام 1087م ونقل جهازها إلى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملا مجللة بالديباج الرومي وسارت العروس إلى دار الخلافة وكانت ليلة العرس ليلة مشهودة لم ير ببغداد مثلها وأنجبت خاتون للخليفة ولدا سمته جعفر ولكن لم يدم الوفاق طويلا بين الخليفة وزوجته وتطور بينهما الخلاف وإنكشف أمره عندما أخبرت خاتون أباها بالأمر وشكت إعراض المقتدى عنها وعلى الفور أرسل السلطان ملكشاه إلى الخليفة العباسي المقتدى يطلب إبنته التي توجهت إلى بيت أبيها في أصفهان التي كانت قد أصبحت عاصمة الدولة السلجوقية آنذاك بموكب يليق بها مع إبنها وما كادت تستريح في بيت والدها حتى فارقت الحياة بعد أشهر قليلة وبدأ السلطان ملكشاه يخطط إلى الإنتقام من الخليفة عندما تسنح له فرصة مناسبة وفي عام 484 هجرية الموافق عام 1091م دخل السلطان ملكشاه مدينة بغداد ومكث في دار المملكة حتى يكون على مقربة من المقتدى وبدأ نفوذ الخليفة يتقلص أكثر فأكثر حتى لم يعد له من الأمر إلا إلإسم فقط ولا يتعدى حكم بابه ولا يتجاوزه وأقام السلطان أيضاً عيد ميلاده على نهر دجلة وإزدانت بغداد بزينة باهرة في هذه المناسبة في البر والنهر وبعد كل ما جرى من تحطيم لمعنويات المقتدى أقدم السلطان ملكشاه على التدخل المباشر في مصير الخلافة العباسية وطلب من المقتدى أن يجعل أبا الفضل جعفر إبنه الذى أنجبته بنت السلطان ولياً لعهده بدلا من إبنه الأكبر الإمام المستظهر بالله الذى كان المقتدى قد بايع له بالخلافة من بعده وحاول الخليفة أن يتملص من هذا الأمر إلا أن السلطان كان مصمما على الإنتقام من المقتدى وإجلائه نهائياً عن مدينة بغداد وحين عاد إليها في عام 485 هجرية الموافق عام 1092م كان عازما على الشر وأرسل إلى الخليفة العباسي يقول لا بد أن تترك لي بغداد وتذهب إلى أى بلد شئت فإنزعج الخليفة وقال أمهلني ولو شهر واحد فقط فقال له ولا ساعة واحدة فأرسل الخليفة إلى نظام الملك وزير السلطان يطلب منحه مهلة عشرة أيام وهكذا حل بالمقتدى ذل وهوان لا مثيل له في حياته كلها وهو لا يستطيع أن يرد عن نفسه ولا يستطيع أن يقف في وجه ملكشاه وإلتجأ الخليفة إلى ربه داعيا فكان يقوم الليل ويصوم النهار خاشعا متضرعا إلى الله تعالى أن يخرجه من هذا المأزق وكان إذا أفطر جلس على الرماد ودعا على ملكشاه فإستجاب الله دعاءه وفي هذه الفترة خرج السلطان ملكشاه إلى الصيد فعاد مريضا ومات قبل أن تنتهي فترة الإنذار التي أعطاها للخليفة المقتدى وعد ذلك كرامة للخليفة وبذلك تخلص من عار محقق ومأساة واقعة بعد أن كان قد وصل إلى درجة من الضعف والهوان لا يحسده عليها عدو ولما مات السلطان ملكشاه كتمت زوجته تركان خاتون موته وأرسلت إلى الأمراء والقادة والأعيان سرا فإستحلفتهم لولده محمود الأول وهو إبن خمس سنوات فحلفوا له وأرسلت إلى الخليفة العباسي المقتدى في أن يسلطنه فأجاب ولقبه بناصر الدنيا والدين .
ولننتقل الآن إلى الحديث عن سياسة الدولة خلال فترة حكم السلطان ملكشاه فسنجد أنه قد إرتبط نجاح ملكشاه في سياسة الدولة بوزيره نظام الملك الذى كان له أثر لا يغفل ويد لا تنسى في إزدياد قوة الدولة السلجوقية وإتساع ملكها ونفوذها وإزدهار حركاتها الثقافية حيث إستطاع بحسن سياسته ورجاحة عقله أن يجعل الأمور منتظمة في جميع أنحاء الدولة وأن يوجه سياسة السلاجقة نحو الثغور الإسلامية المتاخمة للروم وهو ما أكسبهم إحترام المسلمين وتقديرهم وبث الهيبة في نفوس أعدائهم وقد وضع هذا الوزير النابه كتابا عظيما في تدبير الملك سماه سياست نامه ضمنه آراءه في السياسة والحكم وكيفية إدارة البلاد وتنظيم شئون الحكم كما شجع نظام الملك على تعمير المدن وإصلاح البلاد وشيد الكثير من المساجد والمدارس وخلف كثيرا من الأبنية والآثار العظيمة في بغداد وأصفهان كما كان خيرا عادلا وإستطاع أن يقر الأمن والنظام في جميع أنحاء البلاد الخاضعة للسلاجقة وكان يهتم بالعلماء والزهاد والمدارس العلمية وينفق عليها الأموال الضخمة فسعى خصومه بالوشاية إلى السلطان ملكشاه وقالوا إن نظام الملك ينفق في كل سنة على الفقهاء والقراء ثلاثمائة ألف دينار ولو صرف هذا المال على جيش لرفع رايته على أسوار القسطنطينية فطلب السلطان وزيره ليسأله فرد عليه قائلا ثم إنك تنفق على الجيوش المحاربة أضعاف هذا المال مع أن أقواهم وأرساهم لا تبلغ رميته ميلا ولا يضرب سيفه إلا ما قرب منه وأنا أقمت لك بهذا المال جيشا يسمى جيش الليل قام بالدعاء إذا نامت جيوشك فمدوا إلى الله أكفهم وأرسلوا دموعهم فتصل من دعائهم سهام على العرش لا يحجبها شئ عن الله فأنت وجيوشك في خفارتهم تعيشون وبدعائهم تثبتون وببركاتهم ترزقون فبكى السلطان وقال بالتركية شا باشي يا أبت شا باشي وترجمة ذلك بالعربية إستكثر من هذا الجيش وعلاوة على ذلك كان نظام الملك عالما أديبا محبا لنشر العلم والثقافة حيث أنشأ كثيرا من المدارس التي حملت إسمه فعرفت بالمدارس النظامية وكان الهدف من إنشائها مواجهة الدعوة الشيعية التي ذاعت بعد قيام الدولة الفاطمية وقد إنتشرت هذه المدارس في بغداد ونيسابور وطوس وهراة وأصفهان وغيرها من البلاد غير أن أشهرها نظامية بغداد التي إختار نظام الملك لها مشاهير الفكر والثقافة وكبار أئمة العلم للتدريس فيها مثل حجة الإسلام أبي حامد الغزالي صاحب كتاب إحياء علوم الدين الذى فوض إليه نظام الملك مهمة التدريس في المدرسة النظامية في بغداد ونيسابور التي كان يدرس فيها أبو المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين وكان الوزير ينفق في كل سنة على أصحاب المدارس والفقهاء والعلماء ثلاثمائة ألف ديناركما أسلفنا .
وقد حرص السلطان ملكشاه على زيارة الأقاليم وتفقد أحوال الرعية ومعرفة إحتياجاتهم بنفسه وبنى المخافر في الطرق فإنتشر الأمن من حدود الصين شرقا إلى البحر المتوسط غربا ومن جورجيا شمالا إلى اليمن جنوبا وقام بجولة من أصفهان إلى الأنبار ومنها إلى الموصل ثم سار إلى حلب حيث قضى على بعض أمرائها وكان وزيره نظام الملك يرافقه في جميع هذه الفرات والجولات وهو الذى كان يشير عليه بما يفعله ويدبر الأمور له ومع عظمته كان يقف للمسكين والمرأة والضعيف فيقضي حوائجهم وأسقط المكوس والضرائب وعمر العمارات الهائلة وبنى القناطر وحفر الأنهار الكبار وبنى مدرسة الإمام أبي حنيفة النعمان والسوق وبنى الجامع الذي يقال له جامع السلطان ببغداد وحدث ذات مرة أن شيع ملكشاه رحمه الله ركب بلاد العراق المتوجه لأداء فريضة الحج إلى العذيب قرب الكوفة فصاد شيئا كثيرا فبنى هناك منارة القرون من حوافر الوحوش وقرونها ووقف يتأمل الحجاج فرق ونزل وسجد وعفر وجهه وبكى وقال بالعجمية بلغوا سلامي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقولوا العبد العاصي الآبق أبو الفتح يخدم ويقول يا نبي الله لو كنت ممن يصلح لتلك الحضرة المقدسة كنت في الصحبة فضج الناس وبكوا ودعوا له وبالإضافة إلى هذه المناقب كانت للسلطان ملكشاه أفعال حسنة وسيرة صالحة حيث كان نصيرا للمظلومين وكان من ذلك أن فلاحا أنهى إليه أن غلمانا له أخذوا له حمل بطيخ هو رأس ماله فقال اليوم أرد عليك حملك ثم قال لمن حوله أريد أن تأتوني ببطيخ ففتشوا فإذا في خيمة الحاجب بطيخ فحملوه إليه فإستدعى الحاجب فقال من أين لك هذا البطيخ فقال جاء به الغلمان فقال أحضرهم فذهب فهربهم فأرسل إليه فأحضره وسلمه إلى الفلاح وقال خذ بيده فإنه مملوكي ومملوك أبي فإياك أن تفارقه فرد عليه حمله فخرج الفلاح يحمله وفي يده الحاجب فإستفدى نفسه منه بثلاثمائة دينار وكان أيضا من حسن تصرفه وحرصه على أعراض المسلمين أنه كان قد إشتكى إلى ملكشاه رحمه الله تركماني بأن رجلا إفتض بكارة إبنته وهو يريد أن يمكنه من قتله فقال له يا هذا إن إبنتك لو شاءت ما مكنته من نفسها فإن كنت لابد فاعلا فإقتلها معه فسكت الرجل ثم قال ملكشاه ألا أدلك على ما هو خير من ذلك فقال الرجل وما هو فقال ملكشاه فإن بكارتها قد ذهبت فزوجها من ذلك الرجل وأنا سأمهرها من بيت المال كفايتها ففعل وحدث أن أسقط مرة بعض الضرائب والمكوس فقال رجل من المستوفين يا سلطان العالم إن هذا يعدل ستمائة ألف دينار وأكثر فقال ويحك إن المال مال الله والعباد عبيده والبلاد بلاده وإنما يبقى هذا لي عند الله ومن نازعني في هذا ضربت عنقه وحدث أيضا أن إستعدى السلطان ملكشاه رحمه الله رجلان من الفلاحين على الأمير خمارتكين أنه أخذ منهما مالا جزيلا وكسر ثنيَتيهما وقالا سمعنا بعدلك في العالم فإن أقدتنا منه كما أمرك الله وإلا إستعدينا عليك الله يوم القيامة وأخذا بركابه فنزل عن فرسه وقال لهما خذا بكمى فإسحبانى إلى دار وزيرى نظام الملك فهابا ذلك فعزم عليهما ففعلا ما أمرهما به فلما علم نظام الملك بمجئ السلطان ملكشاه إليه خرج مسرعا من خيمته فقال له السلطان إني قلدتك الأمر لتنصف المظلوم ممن ظلمه فكتب من فوره بعزل خمارتكين وحل إقطاعه وأن يرد إليهما أموالهما وأن يقلعا ثنيتيه إن قامت عليه البينة وأمر لهما السلطان من عنده بمائة دينار .
وأخيرا نذكر أن السلطان ملكشاه كما ذكرنا في السطور السابقة لما دخل بغداد في أوائل شهر شوال عام 485 هجرية الموافق أوائل شهر نوفمبر عام 1092م وأمهل الخليفة العباسي المقتدى عشرة أيام للخروج منها خرج من فوره إلى ناحية الدجيل لأجل الصيد فإصطاد وحشا وأكل من لحمهِ فبدأت به العلة فعاد إلى بغداد بسرعة وقد إشتد عليه المرض وكانت وفاته في اليوم التالي مباشرة 15 شوال عام 485 هجرية الموافق 19 نوفمبر عام 1092م عن عمر يناهز السبعة وثلاثين عاما وبعد أن ظل سلطانا على الدولة السلجوقية لمدة 20 عاما وحمل تابوته إلى عاصمته أصفهان ودفن بها في مدرسة عظيمة كانت موقوفة على طائفة للشافعية والحنفية وجدير بالذكر أن وزيره نظام الملك كان قد قتل في أصفهان على يد أحد أعضاء فرقة الإسماعيلية المعروفة بالحشاشين قبل وفاته بخمسة وثلاثين يوما عن عمر يناهز التسعين عاما فإنطوت صفحة من أكثر صفحات التاريخ السلجوقي تألقا وإزدهارا ودخلت بموته الدولة السلجوقية في نفق مظلم من النزاعات والصراع على الحكم والسلطة فكما أسلفنا كانت تركان خاتون زوجة السلطان ملكشاه قد كتمت موته وبايعت لإبنها محمود وأرسلت إلى أصفهان سرا في القبض على بركياروق الإبن الأكبر لملكشاه من زوجته الأخرى زبيدة بنت عمه خوفا من أن ينازع إبنها محمود فحبس فلما ظهر موت ملكشاه وثب مماليك بركياروق ونظام الملك على سلاح كان له بأصفهان وثاروا في البلد وأخرجوا بركياروق من محبسه وبايعوه وخطبوا له بأصفهان وكانت أمه خائفة على ولدها من تركان خاتون أم محمود ولما وصلت هذه الأخيرة إلى أصفهان كان بركياروق قد خرج فيمن معه من النظامية إلى الرى وإجتمع معه بعض أمراء أبيه وبعثت تركان خاتون العساكر إلى قتاله وفيهم أمراء ملكشاه فلما تراءى الجمعان هرب كثير من الأمراء إلى بركياروق وإشتد القتال فإنهزم عسكر محمود وأمه وعادوا إلى أصفهان وسار بركياروق في أثرهم فحاصرهم بها وإستمر الصراع بين بركياروق ومحمود وباقي أخوته وهم معز الدين أحمد سنجر وغياث الدنيا والدين محمد كما شارك في هذه الصراعات إبنه ملكشاه بن بركياروق وإستمر هذا الصراع لمدة سنتين أي حتى عام 487 هجرية الموافق عام 1094م حيث تم توقيع صلح بين بركياروق وشقيقه محمد ووضعت الرى والجبل وطبرستان وفارس وديار بكر والجزيرة والحرمين الشريفين تحت إمرته بينما كان تحت إمرة محمد أذربيجان وبلاد ما وراء النهر وباب الأبواب وديار بكر والموصل والشام وأرسل بخبر هذا الصلح إلى الخليفة العباسي المستظهر هذا وقد تم في عام 2020م إنتاج مسلسل درامي تركي بإسم نهضة السلاجقة العظمى يحكي عن قصة حياة السلطان ملكشاه وعن الأحداث والحروب التي جرت خلال حقبته .
|