بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
المهاجر بن أبي أمية المخزومي القرشي بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر الملقب بقريش بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن نبي الله إسماعيل عليه السلام صحابي جليل من صحابة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ويلتقي معه في الجد السادس مرة بن كعب وكان قومه بنو مخزوم من عشائر قبيلة قريش الثرية وكان ينظر إليهم على أنهم من بين بطون قبيلة قريش الثلاث الأقوى والأكثر نفوذا في مجتمع مكة المكرمة قبل ظهور الإسلام وكانوا مسؤولين عن إعداد وتجهيز قريش للحرب والقتال وكان منهم سيف الله المسلول عبقرى الحرب خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل أحد قادة جيوش الإسلام بعد إسلامه وكان البطن الثاني بنو هاشم قوم النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأعمامه العباس وحمزة وأبي طالب وكانوا مسؤولين عن السقاية والرفادة وخدمة الحجيج أما البطن الثالث فكان بنو أمية وكانوا مسؤولين عن العلاقات السياسية بين قريش وسائر قبائل شبه الجزيرة العربية وكان منهم الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان وأبو سفيان بن حرب ومعاوية بن أبي سفيان وكان والد المهاجر رضي الله عنه هو أبو أمية بن المغيرة وإسمه الأصلي حذيفة وكان أحد سادات قريش في أوائل القرن السابع الميلادى وكان يلقب بزاد الركب حيث كان إذا ما خرج في قافلة يتكفل بزادها من الطعام والشراب ومن ثم أطلق عليه هذا اللقب وكان له شرف المشاركة في إعادة بناء الكعبة المشرفة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حيث تكفلت بنو مخزوم بمفردها بإعادة بناء الجانب المحصور بين الحجر الأسود والركن الجنوبي أما أمه فهي عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن أعيا بن مالك بن علقمة بن فراس بن غنم بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن نبي الله إسماعيل عليه السلام وكان للمهاجر العديد من الأخوة والأخوات بعضهم من أبيه وبعضهم من أبيه وأمه منهم السيدة أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية رضي الله عنها الزوجة السادسة للنبي صلى الله عليه وسلم والتي كانت من السابقين إلى الإسلام وكانت زوجة لأبي سلمة بن عبد الأسد إبن السيدة برة بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم وكان أيضا أخا للنبي من الرضاعة وأنجبت منه ولدين هما عمر وسلمة وبنتين هما درة وزينب وهاجرت معه الهجرة الأولى إلى بلاد الحبشة وعند الهجرة إلى المدينة المنورة منعها أهلها من الهجرة مع زوجها ثم خلوا سبيلها فأخذت ولدها وإرتحلت حتى لقيت عثمان بن طلحة بالتنعيم فكان ينزل بناحية منها إذا نزلت ويسير معها إذا سارت ويرحل بعيرها ويتنحى إذا ركبت فلما نظر إلى نخل المدينة المباركة قال لها هذه الأرض التي تريدين ثم سلم عليها وإنصرف وقيل إنها أول امرأة خرجت مهاجرةً إلى الحبشة وأول ظعينة دخلت المدينة وقد شهد زوجها غزوتي بدر وأحد وجرح في أحد ثم بعثه النبي محمد صلى الله عليه وسلم على سرية إلى بني أسد في شهر صفَر عام 4 هجرية ثم عاد فإنتقض جرحه فمات في شهر جمادى الآخرة عام 4 هجرية ولم يكن لأم سلمة في المدينة بعد وفاة زوجها أحد من ذويها غير صبية صغار فحزن المسلمون لمصابها أشد الحزن وإكراما لها ولزوجها الراحل تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة الخندق في عام 5 هجرية وقد رافقت أم سلمة النبي في عدد من الغزوات وكانت توصف بأنها صاحبة رأى صائب وعقل رشيد وقد أُخذ النبي برأيها يوم صلح الحديبية يوم أن طلب من الصحابة أن يذبحوا الهدى ويحلقوا فلم يستجيبوا فدخل النبي عليها منزعجا وأخبرها بالأمر قائلا لقد هلك القوم أمرتهم فما نفذوا الأمر فأشارت عليه ألا يكلم أحدا حتى ينحر الهدى ويدعو حالقه فيحلق له فلما فعل نفذوا أمره ونحروا الهدى وحلقوا وعلاوة على ذلك فقد كانت ممن رووا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان إجمالي ما روته عدد 378 حديث وأخيرا كان من أبناء عمومة الصحابي المهاجر بن أبي أمية سيف الله المسلول خالد بن الوليد وشقيقيه الوليد بن الوليد وهشام بن الوليد وعمرو بن هشام المعروف بإسم أبي جهل .
وكان ميلاد المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة بمكة المكرمة وليس لدينا معلومات عن سنة ميلاده ولا عن تفاصيل نشأته وحياته قبل الإسلام وتبدأ قصته معنا بإشتراكه في غزوة بدر في صفوف المشركين حيث لم يكن قد دخل في الإسلام بعد وقتل أخواه يومئذ هشام ومسعود وبعد غزوة الخندق وزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أخته السيدة أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أسلم وهاجر إلي المدينة المنورة وتوجه إلي بيت أخته فدخل الرسول فوجده عندها فسأل من الرجل فأجابته أم سلمة إنه أخي الوليد جاء مسلما فكره الرسول هذا الإسم فقال بل إنه المهاجر وهكذا فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم المهاجر بدلا من إسمه الأصلي الوليد وهو الإسم الذى عرف به منذ أن دخل في الإسلام وحدث أن تخلف عن غزوة تبوك في العام التاسع للهجرة فلما عاد الرسول من الغزوة كان عاتبا عليه فطلب من أخته السيدة أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أن تتشفع له عند الرسول صلى الله عليه وسلم فقبل شفاعتها فأحضرته فإعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرضي عنه ويبدو أنه كان لهذا العتاب بالرغم من عفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم السريع عنه أثره فلم تذكر المراجع أن المهاجر رضي الله عنه تأخر بعد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن خليفته أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالرغم من صعوبة ما كلف به فقد كلف بسفارته لليمن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما شهد حروب الردة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه كما سنرى في السطور القادمة بإذن الله وإنطلق المهاجر نحو اليمن حتى أتى مكة فبلغه أن الأسود العنسي قد خرج بصنعاء فعاد إلى المدينة المنورة فلم يزل بها حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول عام 11 هجرية وأطلت الردة بوجهها القبيح حيث إرتدت بعض القبائل عن الإسلام بالكلية وعادت لعبادة الأصنام ومنعت بعض القبائل الزكاة ورفضت الخضوع لسلطة الخليفة بالمدينة المنورة ولم يثبت على الإسلام إلا مكة والمدينة والطائف وأصبح المسلمون وسط بحر هائج متلاطم من أمواج الردة وقد ألهم الله تعالى الخليفة العظيم أبا بكر الصديق رأيا سديدا في قتال المرتدين فهو لم يقبل كما رأى بعض الصحابة الأخيار بأن لا يقاتل من منعوا الزكاة طالما ظلوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويؤدون الصلاة بل أصر على ضرورة الخضوع الكامل لعاصمة الإسلام المدينة المنورة وأن يقيموا فرائض الإسلام بالكامل قائلا أينقص الدين وأنا حي أينقص الدين وأبو بكر حي والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه وقرر الخليفة العظيم أبو بكر الصديق رضي الله عنه عقد 11 لواء ووجه كل منها لوجهة معينة لقمع الردة بها فولى أبو بكر رضي الله عنه المهاجر بن أبي أمية قيادة اللواء الرابع من الإحدى عشر لواء التي عقدها لقتال المرتدين ووجهه لقتال الأسود العنسي في اليمن فإذا ما إنتهى منه عليه التوجه لقتال عمرو بن معديكرب الزبيدى وقيس بن مكشوح المرادى ورجالهما فإذا ما إنتهى منهما عليه التوجه إلى قتال الأشعث بن قيس الكندى وقومه .
وبالعودة إلى الوراء قليلا لكي ننظر إلى أحوال اليمن فقد كان باذان والي الفرس على اليمن قد أسلم بعد أن تحققت لديه نبوءة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بوفاة كسرى أبرويز بعد أن عدا عليه إبنه شيرويه وقتله وقد ثبته النبي محمد صلى الله عليه وسلم في منصبه حتى وفاة باذان عام 10 هجرية فقسم النبي ولايته فجعل إبنه شهر بن باذان على صنعاء وبعض أصحابه على باقي مناطق اليمن وقبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بفترة قصيرة خرج عبهلة بن كعب بن غوث العنسي المذحجي المعروف بذى الخمار الأسود العنسي على عمال النبي محمد في اليمن فجمع 700 مقاتل وهاجم بها نجران فإنتزعها ثم سار إلى صنعاء فقاتله شهر بن باذان فهزمه الأسود وقتل شهر فإضطربت الأمور في اليمن ودانت له من حضرموت إلى الطائف إلى البحرين والأحساء إلى عدن فعظم ملكه وإستغلظ أمره فإرتد بعض أهل اليمن وآثر أكثر المسلمين مداراته وإتقاء شره وأسند الأسود أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث بن مكشوح المرادى وإستعان في إدارة ملكه بفيروز الديلمي وداذويه وتزوج من آزاد أرملة شهر بن باذان والتي هي إبنة عم لفيروز وكانت قد بقيت على إسلامها غير أنها كتمت ذلك وحين بلغ الخبر إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم أرسل وبر بن يحنس الدليمي إلى مسلمي اليمن يأمرهم بقتال العنسي وتولى الصحابي الجليل معاذ بن جبل الدعوة لذلك وكان حينئذ باليمن حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسله لكي يعلم أهلها الإسلام فإجتمع له عدد من مسلمي اليمن ونجحوا في الإتصال بقيس بن عبد يغوث قائد جند العنسي الذى وقع الخلاف بينه وبين العنسي وإتصلوا بفيروز وداذويه وكانا أيضا على خلاف مع الأسود وإتفقوا على قتل الأسود وأرسلوا إلى آزاد زوجة العنسي يطلبوا معونتها فوافقتهم وأعلمتهم بمحل يكون فيه بلا حراسة ويسرت لهم سلاح وسرج وإتفقوا على موعد تمكن فيه فيروز من قتل الأسود بمعاونة صاحبيه وإحتزوا رأسه ثم جمعوا الناس وألقوا الرأس بينهم فإنهزم أصحاب عبهلة ونجح عدد من الفرسان من أتباع العنسي في الفرار وظلوا يترددون بين نجران وصنعاء لا يأوون إلى أحد وبذلك عادت بذلك اليمن إلى إسلامها وأرسلوا إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالخبر وكان مقتل الأسود العنسي قبل وفاة النبي محمد بأيام قليلة ووصل الخبر المدينة المنورة في آخر شهر ربيع الأول عام 11 هجرية بعدما بويع أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة وبعدما كلف المهاجر بن أبي أمية بالخروج لقتال الأسود العنسي فشاءت الأقدار أن تنتهي هذه المهمة قبل أن تبدا أما عن المنطقة الواقعة بين مكة المكرمة واليمن فبعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وإضطراب الأمور كتب عتاب بن أسيد عامل أبي بكر على مكة إليه بخبر من إرتد وبعث عتاب أخاه خالدا إلى أهل تهامة لقتال من إرتد منهم فهزم خالد كنانة في الأبارق وبعث عثمان بن أبي العاص عامل الطائف عثمان بن أبي ربيعة لقتال شنوءة فهزمهم وقاتل الطاهر بن أبي هالة عامل أبي بكر الصديق على بني عك والأشعريين بمن بقي على إسلامه المرتدين من عك والأشاعرة وهزمهم أما قبيلة بجيلة فقد أمر أبو بكر الصحابي جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أن يقاتل من إرتد من قومه ثم يسير لقتال خثعم ففعل وتمكن من ذلك فيما بقي أهل نجران على عهدهم وبعثوا وفدا منهم لتجديد العهد مع الخليفة أبي بكر الصديق وبالعودة إلى اليمن فعلى الرغم من وفاة الأسود العنسي إلا أن أمورها إضطربت من جديد حيث طمع قيس بن مكشوح المرادى في ملك اليمن فإرتد عن الإسلام وكاتب أصحاب الأسود فأجابوه ثم أعد قيس مكيدة لفيروز وداذويه فدعاهما إلى طعام فسبق داذويه فيروز إلى الوليمة فإنفرد به قيس وقتله وسمع فيروز وهو في طريقه إلى الوليمة إمرأتان تتحدثان عن مقتل داذويه ففر هاربا إلى أخواله بجبل خولان وإرتدت صنعاء عن الإسلام مجددا ثم لجأ قيس بن مكشوح إلى إجلاء الأبناء عن اليمن وإستطاع بعد ذلك فيروز أن يجمع جيشا قاتل به إبن مكشوح وهزمه وأُسر قيس بن مكشوح المرادى وحليفه عمرو بن معديكرب الزبيدى وأثناء ذلك كان الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه قد أرسل كما أسلفنا بعثا بقيادة المهاجر بن أبي أمية المخزومي لقتال مرتدى اليمن فسلم فيروز أسيريه إلى المهاجر الذى أرسلهما إلى المدينة فعنفهما أبو بكر ثم عفا عنهما بعد إعتذارهما ومما يذكر أنه قد حسن إسلامهما بعد ذلك وشاركا في فتوخات بلاد العراق وفارس في عهد الخليفة عمر بن الخطاب بعد أن سمح الخليفة لمن كان له سابقة رده بالإلتحاق بجيوش الفتوحات بعدما تأكد من حسن إسلامهم شريطة ألا يكونوا قادة مع إمكانية أن يكونوا على رأس قبائلهم وبذلك إستقر الوضع لصالح المسلمين في اليمن وعمل المهاجر بن أبي أمية على مطاردة جيوب المرتدين المتبقية حتى تمكن منهم وبعث بأمره إلى الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
وفي حضر موت فعند وفاة النبيِ محمد صلى الله عليه وسلم كان الصحابي زياد بن لبيد الخزرجي الأنصارى عاملا له على هذه الناحية وكان الصحابي الجليل عكاشة بن محصن رضي الله عنه على بني السكاسك والسكون والمهاجر بن أبي أمية على كندة غير أن المهاجر قد ألم به مرض حال دون خروجه إلى كندة فتولاها زياد بن لبيد إلى أن خرج المهاجر بلوائه إلى قتال المرتدين في اليمن وكان بنو كندة قد أجابوا دعوة الأسود العنسي حين تنبأ في آخر حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحين بلغ المهاجر صنعاء أرسل إلى الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه يخبره بحالها فأمره أبو بكر هو وعكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه بالتوجه إلى حضرموت فسار المهاجر من صنعاء وسار عكرمة من أبين وإلتقيا في مأرب وعبرا صحراء صهيد يريدان حضرموت وفي تلك الأثناء كان زياد بن لبيد قد إشتد في حزم في التعامل مع الخارجين على سلطان المسلمين في حضرموت فأغار على بني عمرو بن معاوية بمن بقي على إسلامه من رجال بني السكون وهزمهم وسبى من نسائهم الكثير ومر زياد بأسراه على عسكر الأشعث بن قيس وبني الحارث بن معاوية فإستغاثت نسوة من بني عمرو بن معاوية قائلات يا أَشعث يا أَشعث خالاتك خالاتك فثار الأشعث في بني الحارث وإستنقذهم وأطلق سراحهم ثم جمع من بني الحارث بن معاوية وبني عمرو بن معاوية ومن أطاعه من السكاسك لقتال زياد وحينئذ كتب زياد للمهاجر يستقدمه فخلف المهاجر عكرمة على قيادة الجيش وهب في كتيبة سريعة لنجدة زياد وإلتقى الفريقان في موضع يسمى محجر الزرقان وإقتتلوا فإنهزمت كندة وفروا إلى حصن النجير وتجمعوا فيه وكان لهذا الحصن ثلاث طرق تؤدى إليه فعسكر زياد على أحدها وعسكر المهاجر على الثاني أما الثالث فقد إستخدمته كندة لإمداد الحصن بالمؤن وما أن وصل عِكرمة بجيشه حتى عسكر في الطريق الثالث وقطع الميرة عن الحصن كما أرسل عكرمة خيولا قاتلت المرتدين من كندة حتى بلغوا الساحل ولما علم من بالحصن بما أصاب أحياء كندة تعاقدوا وتواثقوا على الإستماتة في القتال وفي الصباح تقاتل الفريقان وكثر القتلى في الطرق الثلاثة وهزمت كندة وحينئذ يأس أهل النجير وخرج الأشعث بن قيس إلى المسلمين يستأمنهم على نفسه وتسعةٌ من قومه وأهليهم على أن يفتح لهم باب الحصن فأجابه المهاجر إلى ذلك وطلب منه أن يكتب كتابا بأسمائهم ليختمه ويؤمنهم بموجبه فكتب الأشعث أسمائهم ونسي أن يضيف إسمه ودخل المسلمون الحصن وقتلوا المقاتلة وسبوا نحو ألف إمرأة وأجاز المهاجر من في الكتاب وأمسك بالأشعث يريد أن يقتله لولا تدخل عكرمة بن أبي جهل ونصيحته بترك أمره إلى الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فأوثقوه وأرسلوه إلى المدينة المنورة وبذلك قضى المسلمون على ردة كندة وحضرموت وولى الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه المهاجر بن أبي أمية على اليمن وعبيدة بن سعد على السكاسك وكِندة وأقر زياد بن لبيد على حضرموت وعندما بلغ الأشعث المدينة جرى حوار بينه وبين الخليفة أبي يكر الصديق رضي الله عنه هو أقرب إلى المعاتبة والتهديد بالقتل من جانب الخليفة وإنتهى بالعفوِ عن الأشعث بعد أن عاد إلى الإسلام وحسن إسلام الأشعث بعد ذلك وشارك في فتوحات بلاد العراق وفارس والشام وأقام المهاجر بن أبي أمية رضي الله عنه وعكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه في حضرموت وكندة حتى إستتبت الأُمور تماما للمسلمين وساد الهدوء والإستقرار وتحقق الأمن فكان ذلك آخر حروب الردة في بلاد اليمن .
وهكذا كانت سيرة الصحابي الجليل المهاجر بن ابي أمية رضي الله عنه والذى تمتع بالعديد من الصفات والشمائل ما أهله لأن يلعب دورا مهما في الكثير من الأحداث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن ثم فقد نال ثقته فكلفه بالقيام ببعض المهمات الحساسة وكان من أهم ما إتصف به المهاجر بن أمية رضي الله عنه العفة والأمانة فقد إستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات كندة والصدف وذلك إلى جانب الشجاعة والكفاءة القتالية فقد إختاره أبو بكر رضي الله عنه ليكون من قادة الجيوش في حروب الردة وكان على يديه الإنتصار في معركة النجير وعلاوة على ذلك فقد كان المهاجر على جانب عظيم من الفصاحة وحسن الخلق وخير دليل على ذلك إختيار النبي صلى الله عليه وسلم له ليكون سفيرا من سفرائه وأخيرا نذكر أن تاريخ ومكان وفاة الصحابي الجليل المهاجر بن أبي أمية غير معلومين لنا حيث لم تذكر المصادر التاريخية أى معلومات عن ذلك وعلى الرغم من ذلك إلا أن ما قدمه من أعمال يبقى علما على منارة التاريخ وشاهداً على عظمة تربية النبي صلى الله عليه وسلم وسلم لأصحابه فرضي الله تعالى عنه وأرضاه وجميع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وأسكنه فسيح جناته وجزاه خيرا بما قدمه للإسلام والمسلمين ولا يفوتنا في نهاية هذا المقال أن نذكر أن حروب الردة وإن كنا نتمنى أن لم تحدث لكن كونها قد حدثت فقد كان أن خرجت منح عديدة من قلب المحنة حيث تسببت تلك الحروب في الأمر بجمع القرآن الكريم بإقتراح من الفاروق عمر بن الخطاب للخليفة ابي بكر الصديق بضرورة جمع القرآن بعدما إستشهد حوالي خمسمائة من حفظة القرآن في معركة اليمامة ضد مسيلمة الكذاب وفي البداية تردد الخليفة في تنفيذ ذلك الإقتراح لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك لكن ما لبث الخليفة أن إستحسنه بعد أن أقنعه عمر بذلك فأمر أبو بكر الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصارى بجمع القرآن من الرقاع والعسب واللخاف وصدور الرجال وكتابته بين دفتين في كتاب واحد وهو الأمر الذى تم تنفيذه وظل هذا الكتاب محفوظا لدى الخليفة ابي بكر الصديق ثم إنتقل منه بعد وفاة ابي بكر إلى عمر بن الخطاب عند توليه الخلافة ومن جانب آخر فقد كانت حروب الردة فُرصة مواتية لبروز قيادات عسكرية فذة إكتسبت خبرة وحنكة في القتال وتدرجت من قيادة عمليات عسكرية صغيرة محدودة الإمكانات إلى قيادة عمليات على نطاقٍ أوسع حيث كانت حروب الردة مرحلةً وسيطةً من حيث الحجم بين غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وبين المعارك الكبرى للفتوح ببلاد العراق وفارس والشام ومصر والتي أدت في النهاية إلى سقوط الإمبراطورية الساسانية إلى الأبد وخروج البيزنطيين من بلاد الشام ومصر من خلال معارك كبيرة محورية غيرت وجه التاريخ مثل معركتي اليرموك ببلاد الشام والقادسية ببلاد العراق وما بعدهما وكان من القيادات العسكرية الفذة التي أبرزتها حروب الردة خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وسعد بن أبي وقَاص والقعقاع بن عمرو التميمي وأخوه عاصم وجرير بن عبد الله البجلي وضرار بن الأزور والمثنى بن حارثة الشيباني وإخوته المعنى ومسعود وعدى بن حاتم الطائي والنعمان بن مقرن المزني وإخوته نعيم وسويد وضرار وشرحبيل بن حسنة وعكرمة بن أبي جهل وعتبة بن غزوان وغيرهم الكثير والكثير ومن جانب آخر فقد منحت حروب الردة المسلمين الثقة بالنفس وبالنظام الذى إختاروه وبالقدرة على الإنتصار وهي ثِقةٌ هامةٌ وضرورية في مواجهة قوى كبرى تتمتع بقدرات مادية وكثرة عددية هذا إلى جانب الإيمان بالهدف كما أن حروب الردة كانت عاملا قويا في توحيد كلمة المسلمين حول الخليفة الراشد الأول العظيم أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتحققت بذلك الوحدة السياسية بعد الوحدة الدينية وكان ذلك ضروريا لدفع العرب إلى جزيرتهم التي تعد قاعدة الفتوح فلو كانت هذه القاعدة قد إستمرت في حالة الإضطراب بسبب حركة الردة فكيف كان يمكن للفتوح أن تبدأ وتنجح وتستمر وبلا شك فقد أتاحت حروب الردة تحقيق هذه الوحدة وتعبئة كل طاقات العرب وحشدها للأعمال العسكرية التي تلت مرحلة حروب الردة .
|