الأحد, 28 أبريل 2024

abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
الرئيسية
بانوراما
فرعونيات
بلاد وشركات
الحدث السياحي
سحر الشرق
سياحة وإستشفاء
أم الدنيا
حج وعمرة
أعمدة ثابتة
درجات الحرارة
اسعار العملات
abou-alhool

محمد بن أحمد بن جبير

محمد بن أحمد بن جبير
عدد : 09-2023
بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"

محمد بن أحمد بن جبير بن سعيد بن جبير بن محمد بن سعيد بن جبير بن محمد بن مروان بن عبد السلام بن مروان بن عبد السلام بن جبير من بني ضمرة من قبيلة كنانة المضرية العدنانية والمعروف بإسم إبن جبير ويكنى بأبي الحسين رحالة وجغرافي وكاتب وشاعر أندلسي عاش خلال النصف الثاني من القرن الثاني عشر الميلادى وحتى قرب نهاية الخمس الأول من القرن الثالث عشر الميلادى وكانت عشيرته بنو ضمرة إحدى القبائل العربية العدنانية وهم إحدى بطون قبيلة بني كنانة التي كانت تسكن بلاد الحجاز وإقليم تهامة وهو السهل الساحلي الممتد على ساحل البحر الأحمر في شبه الجزيرة العربية واليمن وقد خرجوا من ديارهم الأصلية في الحجاز إلى الأردن قديما وأصبحوا من عشائر المملكة الأردنية الهاشمية وإنتشروا منها في عدة بلاد منها بلاد المغرب والأندلس حيث سكنت عشيرته بلاد الأندلس عام 123هجرية الموافق عام 741م قادمة من بلاد المشرق الإسلامي مع القائد العسكرى الأموى الشهير بلج بن بشر بن عياض القشيرى والذى كان ضمن الجيش الذى كان يقوده عمه كلثوم بن عياض القُشيرى الذى سيره الخليفة الأموى العاشر هشام بن عبد الملك لإستيعاب فتنة الخوارج من البربر ببلاد المغرب العربي وفي ذلك الزمان كان كثير من الحجاج القادمين من الأندلس يزورون المغرب ومصر والشام وهم في طريقهم إلى الحجاز ثم ينتهزون هذه الفرصة للطواف في بعض الأقاليم الإسلامية الأخرى وكان أعظم أولئك الحجاج شأنا في القرن السادس الهجري الموافق للقرن الثاني عشر الميلادي هو إبن جبير فقد قام بثلاث رحلات إلى الشرق ودون أخبار الرحلة الأولى في شبه مذكرات يومية تعرف بإسم تذكرة بالأخبار عن إتفاقات الأسفار ولعله كتبها حول عام ٥٨٢ ﻫجرية الموافق عام 1186م وقد قام على طباعتها ونشرها الأستاذ الجامعي والمستشرق الإنجليزى ويليام رايت عام ١٨٥٢م في كتاب تم تداوله في الشرق والغرب ثم ظهرت منها طبعة جديدة عام ١٩٠٧م راجعها السياسي والمؤرخ والمستشرق الهولندى مخيِيل يان ديخويه وكان ميلاد إبن جبير عام ٥٤٠ ﻫجرية الموافق عام 1145م في مدينة بلنسية عاصمة مقاطعة بلنسية التي تقع في شرق أسبانيا على ساحل البحر المتوسط وتعد من أكبر مدن البلاد ونشأ في كنف أسرة عريقة وأتم حفظ القرآن الكريم وهو في سن صغيرة وتعلم على يد أبيه وغيره من العلماء في عصره ودرس علوم الدين وشغف بها وبرزت ميوله أيضا في علم الحساب والعلوم اللغوية والأدبية واظهر مواهب شعرية ونثرية رشحته للعمل كاتبا ثم إستخدمه أمير مملكة غرناطة أبو سعيد عثمان بن عبد المؤمن بن علي الكومي ملك الموحدين في وظيفة كاتم السر فإستوطن غرناطة وكان هذا الأمير من ابرز القادة الموحدين الذين ساهموا في توطيد نفوذ دولة الموحدين في بلاد المغرب والأندلس من خلال دوره العسكرى والسياسي والحضارى في هذه البلاد فهو إبن عبد المؤمن بن علي الكومي مؤسس الدولة ومن الذين قضوا عمرهم في سبيل توطيد نفوذها على مختلف السبل وخاصة على الجانب العسكرى الذى إشتهر به الأمير أبو سعيد في مختلف جبهات المغرب والأندلس والتي كان له فيها باع طويل في مقارعة الممالك الأسبانية وبعض القوى الإسلامية المتحالفة معها فكانت له فيها صولات عديدة جمعت بين النصر والهزيمة بحسب الظروف السائدة آنذاك إضافة الى دوره الإدارى الذى قضاه واليا في مختلف الولايات الموحدية خاصة مدن سبتة وقرطبة وغرناطة والتي أثبتت مدى براعته في الحفاظ على وحدة الأراضي الموحدية وحدث أن إستدعى الأمير أبو سعيد إبن جبير يوما ليؤلف فيه كتابا وهو في مجلس شرابه وحدث أن دفع إليه كأسا من النبيذ فإعتذر إبن جبير بأنه ما شرب الخمر قط فقال الأمير والله لتشربن منها سبعا فلم يستطع إلا الإذعان والقبول وكافأه الأمير بأن قدم إليه القدح سبع مرات أخرى مملوءة بالدنانير وصب ذلك في حجره وإنصرف إبن جبير وعقد العزم في الليلة نفسها على أن يذهب لتأدية فريضة الحج تكفيرا عن ذنبه في شرب النبيذ وأنفق تلك الدنانير في سبيل البر والصدقة وباع عقارا له تزود به لينفق منها على رحلة حجه .


وبدأ إبن جبير رحلته لأداء فريضة الحج في شهر شوال عام ٥٧٨ ﻫجرية الموافق عام 1183م مع صديق له إسمه أحمد بن حسان كان من رجال الطب والعلم والأدب وبدأت رحلة الصديقين إبن جبير وأحمد بن حسان بعبورهما مضيق جبل طارق إلى مدينة سبتة ببلاد المغرب حيث وجدا سفينة من سفن مدينة جنوة الإيطالية تريد الإقلاع إلى الإسكندرية فركباها يوم الخميس ٢٩ من شهر شوال عام 578 هجرية الموافق يوم ٢٤ فبراير عام 1183م وبدأ إبن جبير تسجيل يومياته ومشاهداته منذ اليوم التالي لإقلاع السفينة من سبتة مباشرة ومما يذكر أن إبن جبير قد ذكر أن العلاقات بين الأفراد المسيحيين والمسلمين الذين كانوا بالسفينة التي إستقلها هو وصديقه من سبتة كانت آنذاك طيبة ويسودها التسامح وسره أن الله قد وفقهما إلى تلك السفينة وكتب أن الله سهل عليه وعلى صديقه ركوبها وبعد أن أقلعت السفينة التي ركبها إبن جبير سارت محاذية لشاطئ الأندلس حتى ثغر دانية جنوبي بلنسية ثم إتجهت شرقا مارة بجزر البليار وكادت أنواء البحر وأمواجه أن تعبث بها لولا أن مركبا مسيحيا آخر كان قادما من قرطاجنة الأسبانية وكان متجها نحو جزيرة صقلية فإقتفت أثره وإستطاعت أخيرا أن تصل مع ذلك المركب إلى جزيرة سردينية حيث جدد المسافرون الماء والحطب والزاد وقيد إبن جبير أن مسافرا مسلما ممن يعرفون اللسان الرومي هبط مع جماعة من الروم إلى أقرب المواضع المعمورة من المرسى الذى وصلت إليه السفينة فرأى نحو ثمانين من أسرى المسلمين رجالا ونساءا يباعون في السوق وكان الروم قد عادوا بهم من غزوة في سواحل البحر ببلاد المسلمين وأقلعت السفينة بعد ذلك إلى جزيرة صقلية ووصف إبن جبير ما مر بها من العواصف والأهوال إلى أن رست على شاطئها عند موضع لم يحدده ثم فارقته متوجهة إلى ثغر الإسكندرية فوصلت إليه في يوم ٢٩ من شهر ذى القعدة عام 578 هجرية أى بعد شهر من بدء رحلتها من سبتة وطبيعي أن أول ما شاهده إبن جبير في الإسكندرية إنما كان متصلا بما نسميه اليوم إجراءات الجمارك والحق أنه وصفها في دقة وطرافة تجعلنا نتبين من روايتها على لسانه أن الكثير من الأنظمة التي تبدو لنا اليوم من تمخضات مدنيتنا الحديثة ليس في الحق إلا تطورا طبيعيا لما عرفه القوم في العصور الوسطى وقد قال إبن جبير كان أول ما شاهدنا فيها أى في الإسكندرية يوم نزولنا أن صعد موظفون من قبل السلطان على سفينتنا جاءوا على مركب صغيرة وهي في عرض البحر قبل دخولها الميناء وفتشوا السفينة الجنوية وقاموا بتسجيل جميع ما جلب فيها وإستحضروا جميع من كانوا فيها من المسلمين واحدا واحدا وكتبت أسماؤهم وصفاتهم وأسماء بلادهم وسئل كل منهم عما لديه من سلع أو نقد ليؤدى زكاة ذلك كله دون أن يتم بحث ما حال عليه الحول من ذلك أو ما لم يحل وكان أكثر ركاب السفينة المسلمين في طريقهم لأداء الفريضة فلم يستصحبوا سوى زاد محدود لطريقهم ومع ذلك لزموا أداء زكاة ما معهم دون أن يسأل هل حال عليه حول أم لا ونزل أحمد بن حسان صديق إبن جبير ليسأل عن أنباء المغرب فتلقاه مندوب عن السلطان ثم ارسل إلى القاضي ثم إلى أهل الديوان ثم إلى جماعة من حاشية السلطان وقام كل هؤلاء بسؤاله ثم يتم تسجيل قوله فيخلى سبيله وتم إصدار أمر لركاب السفينة بتنزيل أسبابهم وما بقي من أزودتهم وكان على ساحل البحر أعوان توكلوا بهم وحملوا ما أنزلوه إلى الديوان وتم إستدعاؤهم واحدا واحدا وتم إحضار ما لكل واحد من الأسباب وكان الديوان مزدحما ووقع التفتيش لجميع الأسباب ما دق منها وما جل وإختلط بعضها ببعض وأدخلت الأيدى إلى أوساطهم بحثًا عما عسى أن يكون فيها ثم إستحلفوا بعد ذلك هل عندهم غير ما وجدوا لهم أم لا وفي أثناء ذلك ذهب كثير من أسباب الناس لإختلاط الأيدى وتكاثر الزحام ثم أطلقوهم بعد هذا الموقف من الإهانة والذل والخزى العظيم .

وكان يحكم مصر آنذاك السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي ويقول إبن جبير كانت هذه الأمور لا محالة من الأمور الملبس فيها على السلطان والذى لو علم بذلك على ما يؤثر عنه من العدل وإيثار الرفق لأزال ذلك وكفى الله المؤمنين تلك الخطة الشاقة وهذه المذلة وما لقينا ببلاد هذا الرجل هذا الأمر القبيح وهذه الأحدوثة التي هي من المؤكد كانت من أفعال عمال الدواوين وقد تألم إبن جبير أشد الألم أن يساء إلى الحجاج المسلمين وأن يطلب إليهم أداء الزكاة عن جميع ما معهم بدون تفرقة بين الذى حال عليه الحول فإستحقت عليه الزكاة وما لم يحل عليه الحول حيث لا زكاة عليه كما تألم أيضا من القسوة في تفتيشهم وطاف إبن جبير بمدينة الإسكندرية وزار آثارها الرومانية والبطلمية والإسلامية حيث شاهد سورها الإسلامي ومساجدها العريقة ويصف لنا إبن جبير إن أعجب ما شاهده منارة الإسكندرية حيث قال عنها ومن أعظم ما شاهدناه بالإسكندرية المنار الذى قد وضعه الله على يدى من بناه آية للمتوسمين وهداية للمسافرين لولاه ما إهتدوا في البحر إلى بر الإسكندرية يظهر على أَزيد من سبعين ميلا ومبناه في غاية العتاقة والوثاقة طولا وعرضا يزاحم الجو سموا وإرتفاعا يقصر عنه الوصف وينحسر دونه الطرف الخبر عنه يضيق والمشاهدة له تتسع كما عرض وصفا جميلا للخطيب في صلاة الجمعة كما شاهد دخول أسرى من الفرنجة من أسرى الحملة الصليبيية التي قام بها أرناط صاحب حصن الكرك لغزو البحر الأحمر وكانت نتيجتها الفشل وتصدى له السلطان صلاح الدين الايوبى وكان هذا الحصن من أعظم حصون النصارى وكان يقع بجنوب الأردن ويسيطر على الطرق بين مصر والشام وشبه الجزيرة العربية وكان هو المانع والعائق الرئيسي في الطريق البرى لحجاج مصر وما وراءها وهم في طريقهم لبلاد الحجاز وكان بينه وبين القدس مسيرة يوم أو أشق قليلا وكان يعد سرارة أرض فلسطين وكان عظيم الإتساع متصل العمارة وبلغت مساحته 25300 متر مربع ويذكر أنه ينتهي إلى أربعمائة قرية ورحل إبن جبير بعد ذلك إلى القاهرة في يوم 8 ذى الحجة عام 578 هجرية الموافق يوم 3 أبريل عام 1183م وزار مسجد الحسين ومسجد الإمام الشافعي والقرافة والمدرسة الناصرية وإلتقى بشيوخ وعلماء وتحدث عن السلطان صلاح الدين الأيوبي وعن بعض الرجال الذين أسسوا الدولة الأيوبية وشاهد قلعة الجبل ولم يكن قد إكتمل بناؤها بعد كما عاين سور القاهرة والقناطر التي بناها صلاح الدين وزار أيضا أهرام الجيزة الثلاثة ووصفها كما وصف بيماراستان أي مستشفى أحمد بن طولون وذكر أن به قسم مخصص للرجال وقسم مخصص للنساء والجامع المعروف بإسمه أيضا والذى كان قد تحول إلى مأوى للغرباء من أهل المغرب حيث كانوا يعقدون فيه الدرس ويسكنون به ثم أكمل سفره إلى الصعيد وشاهد المدن الواقعة على نهر النيل وخاصة مدينة قوص التي كانت مقصد التجار والمسافرين والحجاج من مصر والمغرب واليمن والهند والحبشة حيث كانوا يتجهون منها إلى ميناء عيذاب على البحر الأحمر عبر الصحراء وكان موقعه قرب مدينة مرسى علم الحديثة وكان هذا طريق التجارة الدولية ودخل إبن جبير قوص وكتب عنها إنها مدينة حافلة الأسواق متسعة المرافق كثيرة الخلق لكثرة الصادر والوارد من الحجاج والتجار المصريين والمغاربة واليمنيين والهنود وتجار أرض الحبشة ثم سافر منها إلى عيذاب بطريق الصحراء الذي ذاعت شهرته في عالم التجارة في العصور الوسطى ووصف إبن جبير هذا الطريق وأشار إلى ضخامة تجارته في الفلفل وأنواع التوابل فقال ورمنا في هذا الطريق إحصاء القوافل الواردة والصادرة فما تمكنا ولا سيما القوافل العيذابية المحملة بسلع الهند المحمولة إلى اليمن ثم من اليمن إلى عيذاب وأضاف إن أكثر ما شاهدنا من ذلك أحمال الفلفل فلقد خيل إلينا لكثرته أنه يوازى التراب قيمة وكان من عجيب ما شاهدناه بهذه الصحراء أنك تلتقي بقارعة الطريق أحمال الفلفل والقرفة وسائرها من السلع مطروحة لا حارس لها تترك بهذا الشكل إما لإعياء الإبل الحاملة لها أو غير ذلك من الأعذار وتبقى بموضعها إلى أن ينقلها صاحبها مصونة رغم كثرة المارة عليها .


ولما وصل إبن جبير ميناء عيذاب لاحظ أنها من أعظم الثغور شأنا بسبب أن مراكب الهند واليمن تحط فيها وتقلع منها بالإضافة إلى مراكب الحجاج والمعتمرين الصادرة والواردة كما لاحظ أنها في صحراء لا نبات فيها ولا يؤكل فيها شئ إلا مجلوب ولكن أهلها في نعمة بما يكسبونه من خدمة التجار والحجاج ولا سيما من تأجير الجلاب ومفردها جلبة وهي المراكب التي تنقل الحجاج بين عيذاب وجدة وقد وصفها إبن جبير وصفا دقيقا لأنها كانت غريبة لا يستعمل فيها مسمار البتة وكان أهل عيذاب لا يحفلون براحة الحجاج فكانوا يشحنون الجلاب بهم حتى يجلس بعضهم على بعض وتعود بهم كأنها أقفاص الدجاج لكي يستطيع صاحب الجلبة منهم أن يستوفي ثمنها في رحلة واحدة والواقع أن إبن جبير إعتبر أن الحلول بعيذاب يعد من أعظم المكاره التي حف بها السبيل إلى الحج فقد كان ساخطا على هوائها الذى يذيب الأجسام ومائها الذى يشغل المعدة على إشتهاء الطعام وسكانها الذين لا خلاق لهم ولا جناح على لاعنهم وأشار في هذه المناسبة إلى ما يزعمه الناس من أن سليمان بن داود كان قد إتخذها سجنًا للعفارتة ونصح إبن جبير بتجنبها وبإتخاذ طريق الشام والحق أن هذا الطريق الأخير ومثله طريق العقبة كانا طريقان بريان طبيعين لا سيما لحجاج المغرب والأندلس لكن وجود الصليبيين في الشام حمل معظم الحجاج على التحول إلى طريق عيذاب وإستقل إبن جبير منها سفينة إلى ميناء جدة ووصف السفن المخصصة لنقل الحجاج وبعد وصوله إلى جدة في يوم 11 ربيع الآخر عام 579 هجرية الموافق يوم 2 أغسطس عام 1183م إرتحل منها قاصدا مكة المكرمة فوصلها بعد ثلاثة أيام وأدى مناسك العمرة ومكث في مكة حتى أتى موسم الحج فأدى الفريضة وخلال فترة إقامته في مكة وصفها وصفا دقيقا ووصف المسجد الحرام ومناسك الحج ثم إنتقل إلى المدينة المنورة وزار قبر ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم وقام بوصفها ووصف المسجد النبوى الشريف أيضا وفي الحقيقة فقد وفق الرحالة إبن جبير من خلال رحلته هذه في تدوين أخبار وملاحظات ذات شأن عظيم في دراسة التاريخ والآثار الإسلامية وقد سجل إبن جبير فيما كتبه غضبه لما شاهده من سوء معاملة الحجاج وإمعان أهل مكة المكرمة في إستغلالهم لولا تدارك السلطان صلاح الدين الأيوبي ذلك الأمر بإرساله المال والطعام إلى مكثر الحسني أمير مكة المكرمة فضلًا عن منحه إقطاعات في صعيد مصر وفي بلاد اليمن غير أن غياب السلطان صلاح الدين الأيوبي في حروبه مع الصليبيين في الشام كان يشجع مكثر الحسني على التمادى في إستغلال الحجاج حتى تمنى إبن جبير أن تتطهر تلك الأراضي المقدسة بسيوف مولاه ملك الدولة الموحدية بالأندلس والمغرب أبي سعيد بن عبد المؤمن بن علي الكومي وعلى الرغم من أن أمراء مكة كانوا يدينون بالطاعة للخليفة العباسي ببغداد وللسلطان صلاح الدين الأيوبي بالقاهرة لكنهم كانوا ينعمون بقسط وافر من الإستقلال منذ أن حل الضعف بالدولة العباسية وما دام السلطان صلاح الدين مشغولا بقتال الصليبيين في الشام وذكر إبن جبير أن الخطيب في الحرمين الشريفين كانا يدعوان يوم الجمعة للخليفة العباسي ثم لأمير مكة ثم للسلطان صلاح الدين الأيوبي يوسف بن أيوب ولأخيه وولي عهده أبي بكر وعند ذكر السلطان صلاح الدين الأيوبي بالدعاء تخفق الألسنة بالتأمين عليه في كل مكان وحق ذلك عليهم لما يبذله من جميل الإعتناء والإهتمام بهم وحسن النظر لهم وحسن صنيعه برفع الضرائب والمكوس عنهم ولم يكن هذا هو الوضع الوحيد الذي أشار فيه الرحالة إبن جبير إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي بأعظم الإعجاب والتقدير .


وعقد إبن جبير العزم بعد ذلك على عدم العودة إلى وطنه مباشرة ورافق ركب الحجاج العراقي ومر بطريق نجد قاصدا الكوفة ودون أن هذه المدينة كبيرة عتيقة البناء قد إستولى الخراب على أكثرها وأن من أسباب خرابها قبيلة خفاجة المجاورة لها وكانت لا تزال تضر بها وعبر نهر الفرات عند مدينة الحلة على جسر جديد أمر الخليفة بتشييده لراحة الحجاج وكان هذا الجسر معقودا على مراكب كبار متصلة ببعضها البعض من الشط إلى الشط تحف بها من جانبها سلاسل من حديد كالأذرع المفتولة عظما وضخامة ترتبط إلى خشب مثبتة في كلا الشطين تدل على عظم الإستطاعة والقدرة وإجتاز إبن جبير بظاهر مدينة الحلة جسرا آخر على رافد متشعب من الفرات يسمى النيل وأخيرا وصل الرحالة إلى العاصمة العباسية بغداد ووصف أحياءها المختلفة ومساجدها وأسواقها وحماماتها ومدارسها ومستشفياتها وعمائرها ولكنه لم يجد العاصمة العباسية على حسب ما سمع وما تخيل فكتب إن هذه المدينة العتيقة وإن لم تزل حاضرة الخلافة العباسية إلا أنه قد ذهب أكثر رسمها ولم يبق منها إلا مجرد إسمها فقط وقد حملت هذه الكلمات شيئا من الصدمة أو الخيبة التي راودته حين رأى بغداد في زمان أفولها في نهايات الخلافة العباسية أيام حكم الخليفة الناصر لدين الله إذ أنها قد إختلفت عما كانت عليه أيام حكم العباسيين الأوائل كالمنصور والرشيد والمأمون والمعتصم وغيرهم ويشير إبن جبير فيما كتبه إلى إنحسار مساحة بغداد التاريخية وأفول نجمها وذهاب كثير مما عرفت به من بهائها ومجدها السالف بسبب كثرة ما أسماها الفتن والإضطرابات متحدثا عن الخراب الذى أصاب جانبها الغربي وهو الكرخ لافتا النظر إلى أن معظم الحدائق والبساتين تقع في هذا الجانب ومنها تجلب الفواكه إلى الجانب الشرقي منها وهو الرصافة والذى قال عنه إنه يحتوى على عدد 17 محلة كل محلة منها تعد مدينة مستقلة وفي كل واحدة منها الحمامان والثلاثة والثمانية وكان أكثرها مطلية بالقار فيخيل للناظر أنه رخام أسود صقيل كذلك كانت الزوارق فيها لا تحصى فالناس ليلا ونهارا لا ينقطع عبورهم لنهر دجلة أو التنزه عبره رجالا ونساءا كما كان بالرصافة الكثير من الأسواق عظيمة الترتيب تشتمل من الخلق على بشر لا يحصيهم إلا الله وبها من الجوامع ثلاثة ومنها جامع الخليفة المتصل بداره وهو جامع كبير وفيه سقايات عظيمة ومرافق كثيرة كاملة مرافق الوضوء والطهور حيث كان الخليفة قد بات دار خلافته بالرصافة ولم يفت إبن جبير أن يتطرق إلى البيماراستانات أو المستشفيات المنتشرة في المدينة والتي كان من أشهرها البيماراستان الذى كان يقع على نهر دجلة وكان عبارة عن قصر كبير فيه المقاصير والبيوت وجميع مرافق المساكن الملوكية والماء يدخل إليه من نهر دجلة وتتفقده الأطباء كل يوم إثنين وخميس ويطالعون أحوال المرضى به ويرتبون لهم أخذ ما يحتاجون إليه وبين أيديهم مساعدين لهم يتناولون طبخ الأدوية والأغذية وعلاوة على البيماراستانات لفت نظر إبن جبير أيضا مدارس المدينة ودورها في تقديم العلوم وتأثيرها الروحي الكبير في عامة الناس وذكر أن عددها كان نحو الثلاثين وكانت كلها بالرصافة بالجانب الشرقي من المدينة وكان من أهمها وأعظمها المدرسة النظامية والتي كان يتم تدريس كافة العلوم بها وكان قد أسسها نظام الملك وزير السلطان السلجوقي الثالث جلال الدولة ملكشاه عام 459 هجرية الموافق عام 1066م وجددت عام 504 هجرية الموافق عام 1110م وذكر أنه كان لهذه المدارس أوقاف عظيمة وعقارات موقوفة لها للإنفاق عليها وعلى مدرسيها وطلبتها وتحدث بعد ذلك إبن جبير عن أهل بغداد بقسوة بالغة فقال فلا تكاد تلقى منهم إلا من يتصنع بالتواضع رياءا ويذهب بنفسه عجبا وكبرياءا يزدرون الغرباء ويظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء ويستصغرون عمن سواهم الأحاديث والأنباء وقد تصور كل منهم في معتقده وخلده أن الوجود يصغر بالإضافة لبلده فهم لا يستكرمون في معمور البسيطة مثوى غير مثواهم كأنهم لا يعتقدون أن لله بلادا أو عبادا سواهم يتبايعون بينهم بالذهب قرضا فلا نفقة فيها إلا من دينار تقرضه وعلى يدى مخسر للميزان تعرضه لا تكاد تظفر من خواص أهلها بالورع العفيف ولا تقع من أهل موازينها ومكاييلها إلا على من ثبت له الويل في سورة التطفيف فالغريب منهم معدوم الإرفاق متضاعف الإنفاق لا يجد من أهلها إلا من يعامله بنفاق أو يهش إليه هشاشة إنتفاع وإسترفاق .

وبقدر ما كان إبن جبير قاسيا على أهل بغداد إلا أنه مدح فقهاءها المحدثين ووعاظها وأعجب بهم وحكى عن حضوره بعض مجالس هؤلاء الفقهاء والمحدثين والوعاظ والتي تميزوا فيها بطريقة الوعظ والتذكير ومداومة التنبيه والتبصير والمثابرة على الإنذار المخوف والتحذير وخص بعضهم بالذكر كالإمام إبن الجوزى الذى عرف بمجلسه الذى كان موعده كل يوم سبت ووصفه بأنه قرة عين الإيمان رئيس الحنابلة والمشهود له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة ومالك أزمة الكلام في النظم والنثر وقد لفت نظر إبن جبير في بغداد أيضا أساليب الوعظ المؤثرة وتوظيف شعر النسيب فيها كذلك أبدى إعجابه بأصوات قراء القرآن الكريم في جوامع المدينة الذين يتلون الآيات على نسق بتطريب وتشويق يأتون فيها بتلاحين معجبة ونغمات مطربة على حد وصفه وذكر أسماء عدد من أعلام الفقهاء والمتصوفة وغيرهم ممن دفنوا في مدينة بغداد كأبي حنيفة النعمان وأحمد بن حنبل وموسى الكاظم ومعروف الكرخي وأبي بكر الشبلي والحسين بن منصور الحلاج وغيرهم وقد عرض إبن جبير أيضا في وصف بغداد لقصور الخليفة وأسرته وذكر أن بني العباس كانوا وقتئذ متعلقين إعتقالا جميلا لا يخرجون ولا يظهرون ولهم المرتبات القائمة ولم يكن للخليفة وزير بل كان له موظف لشئونه الخاصة يعرف بنائب الوزارة وله فضلا عن ذلك قيم على الدولة كلها يعرف بالصاحب أستاذ الدار ويدعي له في الخطبة إثر الدعاء للخليفة وقد صادف أن خرج الخليفة العباسي الناصر لدين الله في جولة نهرية بدجلة فعرفه العامة ومن بينهم إبن جبير رغم محاولات الخليفة التعمية وعدم إظهار نفسه لكنه أبصره بالجانب الغربي لابسا ثوبا أبيض وعلى رأسه قلنسوة مذهبة مطوقة بوبر أسود من الأوبار الغالية ثم رآه مرة أخرى بعد أيام من محل إقامته بالشط الغربي لنهر دجلة وبعد 13 يوما من الإقامة في بغداد غادرها إبن جبير لكنه قبيل الرحيل نقل صورة لأبواب الرصافة باب السلطان ثم باب الظفرية ثم يليه باب الحلبة ثم باب البصلية مضيفا أن في الأسواق أبوابا كثيرة غير هذه وإتجه إبن جبير نحو سامراء ثم تكريت ثم الموصل مواصلا تسجيل ملاحظاته وتعليقاته على المدن التي يدخلها وطبائع أهلها وعاداتهم وتقاليدهم كأنه كان يقدم في ذلك الوقت المبكر دليلا سياحيا مكتوبا لمن ينوى زيارتها أو الإقامة بها وأعجب إبن جبير بما رآه في الموصل من عمائر حربية ودينية ومستشفيات وجدير بالذكر هنا أن أدب الرحلات لم يكن في التراث العربي مجرد إنطباعات أو مجرد ملاحظات سريعة يسجلها الرحالة بل كان يعد محاولات جادة جدا للإقتراب أكثر من الجوانب الشخصية للأمم والشعوب ووصف دقيق لمعالم البلدان وأرجائها وهو ما جعلها مصدرا تاريخيا مهما للعصور اللاحقة خاصة بعدما دمر المغول بغداد عام 656 هجرية الموافق عام 1258م أى بعد نحو 76 عاما من زيارة إبن جبير لها فكان ما كتبه يعد مدونة تاريخية ترسم لنا صور كثير من المعالم التي زالت وإنمحى أثرها بفعل الحروب أو الإهمال .


وواصل إبن جبير رحلته بعد ذلك فإنتقل من بلاد العراق إلى بلااد الشام وتنقل بين مدن الشام المختلفة فوصف آثارها وتحدث عن عادات أهلها وعن عنايتهم بالغرباء ودون أن النصارى المجاورين لجبل لبنان كانوا إذا رأوا به أحد المنقطعين من المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا إليهم ويقولون هؤلاء ممن إنقطع إلى الله عز وجل فتجب مشاركتهم والحق أن إبن جبير نبه إلى ما كان من مودة وعلاقات تجارية بين أفراد المسلمين والمسيحيين حتى في العهد الذي كانت الحروب الصليبية ناشبة فيه بين أمراء الفريقين فقد كتب في رحلته ومن أعجب ما يحدث به أن نيران الفتنة قد تشتعل بين الفئتين مسلمين ونصارى وربما يلتقي الجمعان ويقع القتال بينهم لكن سرعان ما تنتهي الفتنة ويسود الهدوء بين الطرفين ودون إبن جبير إن من ضمن ما شاهده وهو في بلاد الشام وذلك خلال شهر جمادى الأولى عام 580 هجرية الموافق شهر أغسطس عام 1184م من ذلك خروج صلاح الدين بجميع عسكر المسلمين لمنازلة حصن الكرك وبالفعل حاصره وضيق عليه وطال حصاره وإختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منقطع وإختلاف المسلمين من دمشق إلى عكا كذلك وتجار النصارى أيضا لا يمنع أحد منهم ولا يعترض وكان للنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم كما كان للمسلمين أيضا على تجار النصارى ضريبة يؤدونها في بلاد المسلمين على سلعهم وكان الإتفاق بينهم والإعتدال قائما في جميع الأحوال بينما أهل الحرب مشتغلون بحربهم والناس في عافية وأمان والدنيا لمن غلب وكانت هذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم وفي الفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك ولا تعترض الرعايا ولا التجار فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سلما أو حربا وشأن هذه البلاد في ذلك أعجب من أن يستوفى الحديث عنه ولاحظ إبن جبير أن الفلاحين المسلمين في الأرض التابعة للمسيحيين كانوا في رخاء بينما كان إخوانهم الفلاحون المسلمون عند الملاك من بني دينهم لا ينعمون بمثل ذاك الرفق والعدل وقال في ذلك إبن جبير ورحلنا من تبنين سحر يوم الاثنين وطريقنا كله على ضياع متصلة وعمائر منظمة سكانها كلها مسلمون وهم مع الإفرنج على حالة ترفيه وذلك أنهم يؤدون لهم نصف الغلة عند أوان ضمها وجزية على كل رأس دينار وخمسة قراريط ولا يعترضونهم في غير ذلك ولهم على ثمر الشجر ضريبة خفيفة يؤدونها أيضا ومساكنهم بأيديهم وجميع أحوالهم متروكة لهم وكل ما بأيدى الإفرنج من المدن بساحل الشام على هذا السبيل رساتيقها كلها للمسلمين وهي القرى والضياع وقد أشربت الفتنة قلوب أكثرهم لما يبصرون عليه إخوانهم من رساتيق المسلمين وعمالهم لأنهم على ضد أحوالهم من الترفيه والرفق وكانت هذه من الفجائع الطارئة على المسلمين أن يشتكي الصنف الإسلامي جور صنفه المالك له ويحمد سيرة ضده وعدوه المالك له من الإفرنج ويأنس بعدله ولاحظ إبن جبير أيضا أن الصليبيين كانوا يفرضون على المسلمين المغاربة ضريبة خاصة قدرها دينار على كل شخص ودون أن السبب في ذلك أن طائفة من المجاهدين المغاربة كانت قد إشتركت مع مسلمي الشرق الأدنى في فتح أحد الحصون الصليبية وكان لهم الفضل الأكبر في هذا الميدان والظاهر أن الصليبيين ضايقهم قدوم المغاربة من بلادهم البعيدة للمساهمة في قتالهم فعاقبوهم بهذه الضريبة وقال الإفرنج إن هؤلاء المغاربة كانوا يختلفون على بلادنا ونسالمهم ولا نرزأهم شيئًا فلما تعرضوا لحربنا وتألبوا مع إخوانهم المسلمين علينا وجب أن نضع هذه الضريبة عليهم ولكن الواقع أن إشتراك المغاربة في الحروب الصليبية في الشرق لم يكن غريبا ولا سيما إذا تذكرنا أن بلاد المغرب والأندلس كانت في حروب صليبية مع المسيحيين قبل أن تنشب الحروب الصليبية في الشرق الأدنى .


وواصل إبن جبير ترحاله في بلاد الشام ووصل إلى عكا في العاشر من شهر جمادى الآخرة عام ٥٨٠ ﻫجرية الموافق يوم ١٨ من شهر سبتمبر عام ١١٨٤م ووصفها بأنها ملتقى تجار المسلمين والنصارى من جميع الآفاق ولا عجب فقد كانت حينئذ أهم ثغور الصليبيين وعلم هناك أن مركبا في ثغر صور عازم على الإبحار إلى بجاية بتونس فذهب إلى صور ولكنه إستصغر المركب فقفل راجعا إلى عكا بطريق البحر وركب منها سفينة جنوية كبيرة من سفن الحجاج المسيحيين والمسلمين كان قصدها ثغر مسينة بجزيرة صقلية ودون إبن جبير أنها كانت كالمدينة الجامعة فيها أكثر من ألفي مسافر ويباع فيها كل ما يحتاجه المسافر وأن المسلمين كانوا في المركب بمعزل عن الإفرنج وأشار إلى أن عددا من المسافرين من المسلمين قد هلكوا في السفينة فقذف بهم في البحر وورثهم قائد المركب لأن المتبع عندهم كان أن يرث قائد المركب كل من يموت في البحر وإستغرقت الرحلة إلى مسينة حول شهرين وكان المقرر لها نحو أسبوعين والحق أنها كانت رحلة غنية بالأحداث والأخطار تشهد بما كان يتعرض له المسافرون في البحر حينئذ من مخاطر وبما كان يستلزمه قيادة السفن من مهارة ومران وصبر وقد أتيح لإبن جبير في وصف عبور البحر الأبيض المتوسط قادما وعائدا وفي وصف عبوره البحر الأحمر أن يستعمل كثيرا من مصطلحات الملاحة وبناء السفن في العصور الوسطى فحفظ لنا بذلك عددا وافرا منها ويمكن الإفادة من ذلك في فهم بعض المصطلحات الأخرى المدونة في ذلك العصر ورست السفينة أخيرا عند مدينة مسينة في صقلية فوصفها إبن جبير ولكنه كان وصفا مليئا بالمفارقات والمتناقضات فبينما يقول إنه لا يقر فيها لمسلم قرار وإنها لا توجد لغريب أنسا إذ به يضيف إلى ذلك أن أسواقها نافقة حفيلة وأرزاقها واسعة بأرغاد العيش كفيلة لا تزال بها ليلك ونهارك في أمان وإن كنت غريب الوجه واليد واللسان وكان من الواضح أن إبن جبير لم يكن قد إطمأن بعد إلى حال المسلمين في صقلية حيث زار بعد ذلك باليرمو عاصمة البلاد وزار غيرها من مدن الجزيرة ووصف عمرانها وثقة حكامها المسيحيين برعاياها من المسلمين وقد كان عددهم وافرا في هذا الإقليم الذي إلتقت فيه مختلف المدنيات الوثنية والمسيحية والإسلامية ولكننا لا نستطيع أن نركن إلى رحلة إبن جبير في الوقوف على حال المسلمين بجزيرة صقلية ومعرفة ما كانوا يتمتعون به من الحرية الدينية بعد أن زال سلطانهم عن هذه الجزيرة بقرن من الزمان فإنا نراه يدون ما يشهد بأن المسيحيين كانوا يحسنون معاملة المسلمين ويستخدمونهم في الوظائف والمهن حتى في أعظمها شأنا ببلاط الأمير وإنا من جانب آخر نراه يروي حديث رجل مسلم لقيه في مسينة عرفه نفسه بإسم عبد المسيح فلما تعجب من أن هذا الرجل مسلم ومع ذلك فإن إسمه هو ما ذكرنا قال له الرجل أنتم قادرون على إظهار الإسلام فائزون بما قصدتم له رابحون إن شاء الله في متجركم ونحن هنا كاتمون إيماننا خائفون على أنفسنا متمسكون بعبادة الله وأداء فرائضه سرا .


وعلى كل حال فإن الذي وصل إليه المؤرخون أن الدولة النورمانية في صقلية كانت تشمل المسلمين بقسط وافر من رعايتها وكانت تعترف بفضلهم وسبق مدنيتهم في كثير من نواحي الحياة وإذا لم يكن ما كتبه إبن جبير في هذا الصدد واضحا تماما فإن سائر وصفه لبلاد صقلية عظيم الفائدة من الناحيتين التاريخية والجغرافية لأنه كان دقيق الملاحظة في وصف الظواهر الإجتماعية وكان من ذلك ما فطن له من أن الخلاف بين أفراد الأسرة الواحدة من المسلمين كان يؤدى أحيانًا إلى دخول بعضهم في المسيحية فرارا من رقابة أو ولاية أو علاقة شرعية أخرى ثم أقلع إبن جبير من صقلية على ظهر سفينة جنوية أخرى حملته إلى ثغر قرطاجنة في الأندلس فوصل إليها في يوم 15 من شهر المحرم عام ٥٨١ هجرية الموافق يوم 17 أبريل عام 1185م ثم واصل السفر حتى وصل إلى غرناطة بعد حوالي أسبوع بعد أن غاب عنها حول سنتين وثلاثة أشهر وقد قام إبن جبير برحلة ثانية إلى الشرق الإسلامي عام 585 هجرية الموافق عام 1189م إستغرقت أيضا سنتين وبضعة أشهر وقيل إن الذى جذبه إلى الشرق هذه المرة ما سمعه من إستيلاء السلطان صلاح الدين الأيوبي على بيت المقدس عام 583 هجرية الموافق عام 1187م بعد إنتصاره على الصليبيين في معركة حطين الشهيرة وبعد ذلك ترك إبن جبير المقام في غرناطة وإنتقل إلى بلاد المغرب حيث أقام عشرين سنة أو نيف رحل بعدها إلى الشرق مرة ثالثة عام 614 هجرية الموافق عام 1217م وقيل إن ذلك كان بسبب حزنه الشديد على زوجته عاتكة والتي كان يحبها حبا شديدا حيث توفيت في تلك السنة ونظم فيها ديوانه الشعرى نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرين الصالح عبر بها عما ألم به من حزن على فراق زوجته الحبيبة وخرج من سبتة متوجها إلى مكة المكرمة وبقي فيها فترة من الزمن ثم غادرها إلى بيت المقدس ثم إرتحل إلى القاهرة ومنها إلى مدينة الإسكندرية والتي إستقر بها وتوفي بها في السنة نفسها وقد جاوز الثلاثة وسبعين عاما وفي النهاية نذكر أن رحلات إبن جبير إلى المشرق العربي كانت بمثابة تحفة رائعة من خلال كتابه رحلة إبن جبير والذى يعد من أهم مؤلفات العرب في الرحلات ومدونة وافية لجميع ما شاهده وصفحة واضحة لبعض صفحات من تاريخ البلاد الإسلامية والمسيحية التي مر بها وقاموسا لمصطلح عصره في بناء السفن والملاحة البحرية ومرجعا بأسماء البارزين من علماء المسلمين وملوكهم في اواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع الهجريين الموافقين لأواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر الميلاديين ويمكننا القول بأن ما كتبه الرحالة إبن جبير يعد أدبا خالصا فما من أحد قرأ ما كتبه عن رحلته إلا وشهد له ببراعة الأسلوب ودقّة الوصف حيث قال عنه المؤرخ والمستشرق الأسباني آنخل جنثالث بالنثيا في كتابه تاريخ الفكر الأندلسي بترجمة الدكتور حسين مؤنس للعربية صاغ إبن جبير رحلته في أسلوب بارع وصور فيها بكلام سهل بسيط الأحاسيسَ التي إختلجت في نفسه في المواضع التي زارها أو عند مشاهدته الآثار التي رآها وكان أسلوبه سلس جزل ينم عن موهبة أدبية أصيلة أما الأستاذ الجامعي والمستشرق والمؤرخ الروسي إجناطيوس كراتشكوفسكي فيصف أسلوبه قائلا وإذا كان وصفه المفصل للأبنية مملا للقارئ العادى فإن أسلوبه يمتاز بالكثير من الحيوية وسهولة التعبير مثال ذلك وصفُه لجمارك الإسكندرية أو لكارثة السفينة على سواحل صقلية أما عرضه العام فيستهدف الصنعة والأناقة وكان كثيرا ما يلجأ إلى السجع الذى يعالجه بالكثير من المهارة دون أن يبالغ فيه أو يضطر القارئ إلى تكلف الجهد في تفهمه كما أنه كان يشحن كتابته بالإقتباسات الأدبية والإشارات اللطيفة مما كان يتطلب درجة معينة من المعرفة والإطّلاع حتى يضحى مفهوما للقارئ وبعد فإن مصنف إبن جبير يعد مصنفا رفيع الأسلوب يختتم بجدارة حلقة الجغرافيين الأندلسيين في العصر الذى كان يعيش فيه وعلاوة على كل ما سبق فالذي لا يعرفه الكثيرون عن إبن جبير أنه كان أديبا شاعرا وله ديوان شعر غير الديوان الذى ألفه رثاءا لزوجته يسمى نظم الجمان في التشكي من إخوان الزمان كما أنه كان يتصف بالخلق الكريم ويتمتع بعاطفة دينية قوية فكان دائما يختم كل كلامه بالدعاء إلى الله تعالى والتوكل عليه جل جلاله كما دفعه تدينه إلى الدعاء للمدن التي كان يمر بها فنجده كان يدعو الله أن يحرس تلك المدن وأن يحرر المحتل منها فكان يقول فليحرسها الله وليعمرها الله وليحميها الله وليعيدها الله إلى المسلمين .
 
 
الصور :