تأليف :
د.عصام موسى قنيبي
قراءة :
د.محمود رمضان
في دراسة تاريخية منهجية متميزة قدم المؤرخ العالم الجليل الأستاذ الدكتور عصام موسى قنيبي هذا الكتاب المهم بعنوان المدينة المسحورة دراسة موجزة في تاريخ مدينة القدس خلال خمسة آلاف عام الذي يسهم بشكل موضوعي في مساعدة الباحثين الاكاديميين والقاريء والمثقف المهتم بالكثير من المعلومات التاريخية التي تتعلق بتاريخ مدينة القدس بصفة خاصة وتاريخ الوطن الجريح فلسطين الأبية بشكل عام.
إن اللغة العربية الرفيعة والمنهج التاريخي المتوازن في الطرح والمضمون، والتوثيق المصدري الذي قدمه المؤلف في هذا العمل التاريخي المهم جذب القاريء للتعمق في المفردات والأحداث التاريخية التي مرت على مدينة القدس والمسجد الأقصى، والمناطق المحيطة به، وفلسطين الطاهرة المحتلة أيضاً، وبفطنة المؤرخ التي كشف عنها في سرد الوقائع التاريخية جعل من القاريء والباحث في تاريخ مدينة القدس منذ اقدم العصور وحتى بداية القرن الواحد والعشرين، أن يكون متفاعلاً مع حلقات الأحداث التاريخية المختلفة، ومن هذا المنطلق يحسب للمؤرخ حكمته في تأهيل القاريء كي يكون محاوراً للمؤلف فيما يطرحه من موضوعات تاريخية بصفة عامة.
وفي موازاة ذلك، كان لتفرد الأهمية التاريخية والدينية والاستراتيجية لمدينة القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة على المستوى المحلي والاقليمي والعلاقات الدولية مع القوى الكبرى أيضاً لاسيما منذ النصف الثاني من القرن العشرين حتى وقتنا الحاضر، أن أثرت تلك الأحداث والعلاقات السياسية بتنوعها الكبير، وبرز ذلك جلياً فيما كشف عنه المؤلف في مجمل ما طرحه من موضوعات في فصول هذه الدراسة التاريخية الشاملة المتأنية أيضاً.
لخص المؤرخ قنيبي في مقدمة هذه الدراسة حكاية البداية التاريخية وحاجة الباحثين إلى المعلومات التاريخية عن تاريخ مدينة القدس هذه المدينة المسحورة خلال خمسة آلاف عام، بالإضافة إلى ما احتوت عليه الدراسة نصاً بقلم : د. د.عصام موسى قنيبي، كما يلي :
مقدمة :
مدينة القدس، أو بيت المقدس مدينة عربية قديمة، أسهـا العــرب الكنعانيون، قبل حوالي خمسة آلاف سنة. ولمدينة القدس العديد من الأسماء التي عُرفت بها . يرجع بعضها إلى الأصول العربية للمدينة، ومن أشهرها اسم أوروسالم". ويعني في اللغة الكنعانية القديمة أسسها أو أنشأها سالم"، وأيضاً اسم "يبوس" نسبة إلى الزعيم العربي يبوس بن كنعان شيخ القبيلة اليبوسية التي كانت أول من استوطن المكان الذي عُرف فيما بعد باسم مدينة القدس إضافة إلى اسم "القدس" الذي عُرفت به المدينة منذ فجر تاريخها، ويعني البركة والطهارة. وللقدس أيضاً أسماء أخرى تتعلق بالاحتلال الأجنبي، مثل اسم "مدينة داود"، الذي عُرفت به المدينة لفترة قصيرة جداً من عمرها الطويل، بعد دخول نبي الله داود عليه السلام إليها مطلع الألفيَّة الأولى قبل الميلاد. وأيضاً اسم "إيليا كابيتولينا"، الذي أطلقه عليها الإمبراطور الروماني إيليوس هارديناوس بعد احتلاله للمدينة عام 135 لإخماد ثورة اليهودي "سيمون باركوخبا" . وقد دمر الإمبراطور هارديناوس مدينة القدس تدميراً شاملاً، ثُمَّ قام ببناء مدينة جديدة في مكانها، خالية تماماً من اليهود . وظلت مدينة القدس تُعرف باسم "إيليا كابيتولينا" لحوالي خمسة قرون.
ومدينة القدس، مدينة مُقدَّسة، منذ أقدم عصورها، فقد أقام سكانها العديد من أماكن الصَّلاة والعبادة بها. وكان سُكَّان مدينة القدس، بقيادة الملك العربي الكنعاني "ملكي صادق"، يؤمنون بعقيدة التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد، التي جاء بها جميع الرُّسل والأنبياء عليهم السلام. ويبدو أن ملكي صادق لم يكن مجرد ملك، وإنَّما أحد الأنبياء العرب، إذ تعترف المصادر اليهودية والمسيحية بوجود نبي عربي معاصر لإبراهيم عليه السلام اسمه ملكي صادق. والقدس هي المدينة الوحيدة في العالم التي تحظى بالقداسة، لدى جميع الديانات السماوية الثلاث. فاليهود يقدسونها لأنها حسب زعمهم، مقر إقامة ربهم الخاص بهم "يهوه"، ومنها يبعث مسيحهم الذي طال انتظاره، ويزعمون أيضاً أن سليمان عليه السلام أقام هيكله المزعوم فيها. ولهيكل سليمان وكما هو معروف قداسة بالغة في العقائد اليهودية والمسيحيون أيضاً يقدسون مدينة القدس، لأنها هي مهد رسالة نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام، وفيها تأمر اليهود مع السلطات الرومانية ضدهوجرت الأحداث المأساوية، التي انتهت بالقبض على السيد المسيح عليه السلام والزج به في السجن، ثم محاكمته محاكمة صورية، والحكم عليه بالموت صلباً كما في المفهوم اللاهوتي، وتوجد في القدس كنيسة القيامة التي أقيمت في القرن الميلادي الرابع. ويعتقد المسيحيون أنها تضم قبر السيد المسيح عليه السلامهذا، ويؤمن العرب والمسلمون إيماناً مطلقاً، بأن القدس وفلسطين بأسرها، هي أرض عربية صميمة، سكنتها القبائل العربية في فترة ما قبل التاريخ. وبانبثاق فجر الحضارة، عرف العرب الكنعانيون، كأول سكان عرفهم التاريخ لفلسطين، ودامت لهم الغلبة والسيادة عليها لأكثر من ألفي سنة متواصلة. وفي الفكر الإسلامي، فإن مدينة القدس هي أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، ومنها عرج رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلَّم إلى السموات العلى ليلة الإسراء والمعراج وهي أيضاً الأرض المقدسة المباركة، التي بارك الله فيها للعالمين، إضافة إلى أنها أرض المحشر والمنشر.
ونظراً للمكانة الدينية الهامة والمميَّزة لمدينة القدس، ولوقوعها في قلب العالم تقريباً، عند مداخل قارات العالم القديم الثَّلاث، بالإضافة إلى إشرافها على الطرق التجارية والعسكرية الرئيسية التي تربط بلاد الشام ووادي الرافدين بالأراضي المصرية، تعرضت مدينة القدس، منذ مطلع الألفية الثانية قبل الميلاد، للاحتلال الأجنبي عشرات المرات . فقد احتلها، على التوالي، كل من الهكسوس والفراعنة والحوريون واليهود، ثم الفراعنة مرة أخرى والآراميون والآشوريون والبابليون ثم الفرس واليونانيون والرومان. وفي القرن الميلادي السابع، استطاع الفاتحون العرب المسلمون تحرير مدينة القدس وفلسطين بأسرها، بعد قرون طويلة من الاحتلال الغاصب وفي أواخر سنوات القرن الميلادي الحادي عشر، وقعت مدينة القدس أسيرة في قبضة الاحتلال الصليبي، نتيجة لحالة الضعف والتفكك والفوضى التي سادت العالم الإسلامي، في تلك الفترة. وقد استمر الاستعمار الإحلالي الاستيطاني الصليبي لمدينة القدس إلى أن تمكن القائد المظفر صلاح الدين الأيوبي، رضي الله عنه، من تحريرها بعد 88 عاماً من الاحتلال. وفي العصر الإسلامي تعرضت مدينة القدس للاحتلال العسكري من قبل جيوش الدول الإسلامية المختلفة، فقد احتلها الطولونيون والإخشيديون والفاطميون والسلاجقة الأتراك والأيوبيون والمماليك، ثم الأتراك العثمانيون الذين سيطروا على فلسطين ومدينة القدس لمدة أربعة قرون كاملة .
وأثناء الحرب العالمية الأولى (1914) - (1918) تمكن الجيش البريطاني عام 1917 من انتزاع مدينة القدس من أيدي الأتراك العثمانيين، وبعد سيطرة الجيش البريطاني على كامل التُّراب الفلسطيني عام 1918، وضعت فلسطين خلال 30 عاماً من الاستعمار البريطاني في ظروف سياسية وإدارية واقتصادية، أدت في النهاية، إلى إقامة دولة العصابات الصهيونيّة في فلسطين عام 1948، تنفيذاً لوعد بلفور الصادر عن الحكومة البريطانية، في الثَّاني من تشرين الثاني عام 1917. وفور الإعلان عن قيام الدولة الصهيونية في فلسطين، اندلعت الحرب العربية - الإسرائيلية الأولى، في الخامس عشر من أيار/ مايو عام 1948، والتي انتهت باحتلال الصهاينة لحوالي %77.4 من الأراضي الفلسطينية، وسيطرتهم على مدينة القدس الغربية. ونتيجةً للحرب العربية - الإسرائيلية الثَّالثة الخامس من حزيران/ يونيو عام 1967 استولى الصهاينة على ما تبقى من الأرض الفلسطينية، بما فيها مدينة القدس الشرقية، التي تضم المقدسات الإسلامية والمسيحية، وأعلنوا أن مدينة القدس هي عاصمتهم الموحدة والأبدية. ولا تزال المدينة المقدسة ترزح تحت نير الاستعمار الصهيوني البغيض، وتنتظر بفارغ الصبر ظهور قائد من طراز صلاح الدين الأيوبي، يغير من واقعها الحالي ويعيدها لأصحابها العرب من جديد إنشاء الله .
دكتور عصام موسى قنيبي
=====
الاِستزادة، أنظر :
- قنيبي، عصام موسى (دكتور): المدينة المسحورة دراسة موجزة في تاريخ مدينة القدس خلال خمسة آلاف عام، الطبعة الأولى، دار الطليعة الجديدة، دمشق
الجمهورية العربية السورية (2004م). |