بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
محمد بن مسلمة بن سلمة بن خالد بن عدى بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج الأوسي الأنصارى رضي الله عنه صحابي من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينتمي إلى قبيلة الأوس التي كانت إحدى القبائل العربية الرئيسية في المدينة المنورة وكانت القبيلة الأخرى هي قبيلة الخزرج وكانت هناك نزاعات وصراعات وحروب طاحنة بين القبيلتين قبل الإسلام إستمرت 140 عاما وكانت قبائل اليهود التي تسكن المدينة تغذى تلك النزاعات والحروب وتحيك المؤامرات والفتن بما يحقق لهم البقاء والريادة بالمدينة ولم تتوقف تلك الحروب بين القبيلتين إلا قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات وبدخول معظم أبناء القبيلتين في الإسلام إنتهت الصراعات والحروب وساد السلام بين القبيلتين وشكلت القبيلتان الأنصار بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وكان من أشهر رجال قبيلة الأوس الصحابي الجليل سعد بن معاذ وكان سيد الأوس وأسيد بن حضير رضي الله عنهما وكان من سادات القبيلة وقد أسلم محمد بن مسلمة رضي الله عنه قبلهما على يد الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه مبعوث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة لتعليم من أسلم من أهلها القرآن الكريم وفرائض الإسلام وكان محمد بن مسلمة قد ولد في عام 31 قبل الهجرة وكان من القليلين الذين أطلق عليهم إسم محمد في الجاهلية وقد ذكر المؤرخ محمد بن سعد البغدادى في الجزء الأول من الطبقات الكبرى عن من تسمى في الجاهلية بمحمد فقال عن سعيد بن المسيب أنه قال كانت العرب تسمع من أهل الكتاب ومن الكهان أن نبيا سيبعث من العرب إسمه محمد فكان بعضهم يسمون أبناءهم بإسم محمد طمعا في النبوة وقَال القاضي عياض تسمى بعض العرب محمدا قرب ميلاده لما سمعوا من الكهان والأحبار أن نبيا سيبعث في ذلك الزمان يسمى محمدا فطمعوا أن يكون أحد أبناءهم فسموا هؤلاء الأبناء بذلك وكانوا ستة لا سابع لهم كان أحدهم محمد بن مسلمة الأوسي الأنصارى وكان محمد بن مسلمة رضي الله عنه أسمر البشرة شديد السمرة طويل القامة أصلع الرأس ضخم الجسم قوى البنية تبدو عليه سمات الوقار وكان له شقيق إسمه محمود بن مسلمة كان أيضا صحابي من الأنصار ومن السابقين إلى الإسلام وشهد مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم غزوات أحد والخندق وبيعة الرضوان وصلح الحديبية وخيبر وكان مقتله عند حصن ناعم في غزوة خيبر في شهر المحرم عام 7 هجرية حيث سقطت رحى من أعلى الحصن عليه فأصيب إصابة جسيمة وتوفي بعد ذلك بثلاثة أيام ولما هاجر النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة آخى بين الصحابي محمد بن مسلمة رضي الله عنه وبين الصحابي الجليل وأحد العشرة المبشرين بالجنة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وقد شهد محمد بن مسلمة رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بدر في شهر رمضان عام 2 هجرية والتي إنتصر فيها المسلمون على المشركين الذين كان عددهم أكثر من ثلاثة أضعاف المسلمين وقتل فيها عدد من صناديد الكفر على رأسهم عمرو بن هشام أبو جهل عليه لعنة الله فرعون هذه الأمة وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة بن ربيعة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط .
وبعد إنتهاء غزوة بدر شارك محمد بن مسلمة في غزوة يهود بني قينقاع الذين نقضوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم وتولى محمد بن مسلمة رضي الله عنه إخراجهم من المدينة وأشرف على جمع الغنائم والأموال والأسلحة التي خلّفوها وراءهم وأيضا فبعد إنتصار المسلمين في بدر ولما بلغ كعب بن الأشرف أول خبر عن إنتصار المسلمين وقتل صناديد قريش في بدر حين قدم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة من بدر يبشرون اهل المدينة بالنصر قال أحق هذا هؤلاء أشراف العرب وملوك الناس والله إن كان محمد قد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها وكان الأشرف أبو كعب عربيا من بني نبهان من قبيلة طئ وكان قد إرتكب جريمة قتلٍ في شبابه فخرج هاربا من ديار قومه ويمم وجهه إلى المدينة المنورة وهناك إرتبط بصلات المودة والصداقة مع يهود بني النضير إحدى قبائل اليهود الثلاثة التي كانت تسكن المدينة المنورة فحالفهم وصار ينسب إليهم كما جرت العادة في ذلك الزمان ولم تقف العلاقة بين الأشرف وبني النضير عند حدود الموالاة والتحالف فحسب بل تخطت ذلك لتصل إلى المصاهرة حيث تزوج الأشرف من عقيلة بنت أبي الحقيق وكانت إبنة لأحد زعماء يهود بني النضير وبذلك فقد أصبح على الأرجح يهوديا تبعا لديانة أمه وأصبحت له مكانة وكلمة مسموعة لدى اليهود ويبدو أن كل ذلك قد أهله ليكون واحدا من الذين شهدوا على عهد الرسول مع اليهود بعد الهجرة إلى المدينة المنورة لكنه كان من أشد اليهود حنقا على الإسلام والمسلمين وكان غنيا مترفا معروفا بجماله في العرب وشاعرا من شعرائهم وكان حصنه في جنوب شرق المدينة خلف ديار بني النضير ولما تأكد لديه خبر إنتصار المسلمين في بدر إنبعث عدو الله بكل نشاط دون كلل ولا ملل يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ويمدح عدوهم ويحرضهم عليهم ويدعوه إلى حربهم وإلى إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يرض بهذا القدر حتى ركب إلى قريش فنزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي وجعل ينشد الأشعار يبكي فيها على قتلى المشركين ويثير بذلك حفائظهم ويذكي حقدهم على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعوهم إلى حربه وعندما كان بمكة سأله أبو سفيان والمشركون أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه وأى الفريقين أهدى سبيلا فقال أنتم أهدى منهم سبيلا وأفضل وفي ذلك أنزل الله تعالى قوله في سورة النساء أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ثم عاد كعب إلى المدينة على تلك الحال وأخذ يشبب أى يتغزل في أشعاره بجمال نساء الصحابة الكرام ويؤذيهم بسلاطة لسانه أشد الإيذاء وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله فقال محمد بن مسلمة رضي الله عنه وكان صديقا لكعب قبل الإسلام أنا يا رسول الله أتحب أن أقتله فوافق الرسول على ذلك وقال نعم ورخّص له في أن يبدى إمتعاضه من الإسلام ومنه أمام كعب لطمأنته وتهدئته وإنتدبه النبي صلى الله عليه وسلم على رأس مجموعة من المسلمين من قبيلة الأوس ضمت عباد بن بشر وسلكان بن سلامة والمعروف بأبي نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة والحارث بن أوس وأبو عبس بن جبر وتفيد الروايات في قتل كعب بن الأشرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله فأتى محمد بن مسلمة كعب وله إن هذا الرجل قد سألنا صدقة وإنه قد عنانا فقال كعب والله لتملنه فقال إبن مسلمة فإنا قد إتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أى شئ يصير شأنه وقد أردنا أن تقرضنا وسقا أو وسقين فقال كعب نعم أرهنوني فقال إبن مسلمة أى شئ تريد فقال كعب أرهنوني نساءكم فقال إبن مسلمة كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب فقال كعب إذن فترهنوني أبناءكم فقال إبن مسلمة كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال إنه رهن بوسق أو وسقين هذا عار علينا ولكنا نرهنك اللامة يعني السلاح وواعده أن يأتيه وصنع أبو نائلة مثل ما صنع محمد بن مسلمة فقد جاء كعبا فتناشد معه أطراف الأشعار سويعة ثم قال له ويحك يا إبن الأشرف إني قد جئت لحاجة أريد ذكرها لك فإكتم عني فقال كعب أفعل فقال أبو نائلة كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا ودار الحوار على نحو ما دار مع محمد بن مسلمة ثم قال أبو نائلة لكعب إن معي أصحابا لي على مثل رأيي وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك وبذلك نجح إبن مسلمة وأبو نائلة في هذا الحوار إلى ما قصدا فلن يخشى كعب شيئا إذا جاءاه ومعهما السلاح والأصحاب بعد هذا الحوار وفي ليلة مقمرة ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الأول عام 3 هجرية إجتمعت مفرزة محمد بن مسلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعهم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم قائلا إنطلقوا على إسم الله اللهم أعنهم ثم عاد إلى بيته وطفق يصلى ويناجي ربه ووصلت المفرزة إلى حصن كعب بن الأشرف فهتف به أبو نائلة فقام ونزل إليهم وهو متطيب ينفح رأسه وكان أبو نائلة قد قال لأصحابه إذا ما جاء فإني آخذ بشعره فأشمه فإذا رأيتموني إستمكنت من رأسه فدونكم فإضربوه فلما نزل كعب إليهم تحدث معهم ساعة ثم قال أبو نائلة هل لك يا إبن الاشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث بقية ليلتنا فقال إن شئتم فخرجوا يتماشون فقال أبو نائلة وهو في الطريق ما رأيت كالليلة طيبا أعطر من طيبك وزهي كعب بما سمع فقال عندى أعطر نساء العرب فقال أبو نائلة أتأذن لي أن أشم رأسك فقال نعم فأدخل يده في رأسه فشمه وأشم أصحابه ثم مشى ساعة ثم قال أعود فقال كعب نعم فعاد لمثلها حتى إطمأن ثم مشى ساعة ثم قال أعود قال نعم فأدخل يده في رأسه فلما إستمكن منه قال دونكم عدو الله فإختلفت عليه أسيافهم لكنها لم تغن شيئا فأخذ محمد بن مسلمة معولا ضربه به فوقع عدو الله قتيلا وكان قد صاح صيحة شديدة أفزعت من حوله فلم يبق حصن إلا أوقدت عليه النيران .
وبعد إنجاز المفرزة لمهمتها أخذت طريق العودة وكان الحارث بن أوس قد أصيب فجرح ونزف الدم من جرحه فلما بلغت المفرزة حرة العريض رأت أن الحارث ليس معهم فوقفت ساعة حتي أتاهم يتبع آثارهم فإحتملوه حتي إذا بلغوا بقيع الغرقد كبروا وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرهم فعرف أنهم قد قتلوا كعب بن الأشرف فكبر فلما إنتهوا إليه قال أفلحت الوجوه فقالوا ووجهك يا رسول الله ورموا برأس الطاغية بين يديه فحمد الله على قتله وتفل علي جرح الحارث فبرأ ولم يؤذ بعده ولما علمت اليهود بمصرع طاغيتها كعب بن الأشرف دب الرعب في قلوبهم العنيدة وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتوانى في إستخدام القوة حين يرى أن النصح لا يجدى نفعا لمن يخون العهد ولا يحترم المواثيق ولمن يريد العبث بالأمن وإثارة الإضطرابات فلم يحركوا ساكنا لقتل طاغيتهم بل لزموا الهدوء وتظاهروا بإيفاء العهود وإستكانوا وأسرعت الأفاعي إلى جحورها تختبئ فيها وهكذا تفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم إلي حين لمواجهة الأخطار التي كان يتوقع حدوثها من خارج المدينة فالمشركون لابد وأنهم قادمون للثأر مما وقع بهم في بدر وأصبح المسلمون وقد تخفف عنهم جزء من المتاعب الداخلية التي كانوا يتوجسونها ويشمون رائحتها بين آونة وأخرى وجدير بالذكر أن الدرس المستفاد من هذه الواقعة أن الحرب خدعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وأن إمتلاك القوة لردع من يستخف بدين الله والمسلمين مع مناصحتهم في البداية وهي قوة يمتلكها ولي الأمر حصرا ورجاله الثقات ويستفاد أيضا أن أعداء الله لا خلاق لهم ولا ذمة فقد أراد كعب بن الأشرف لعنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يذل المسلمين فيرهن نسائهم وأولادهم ثم لما قوبل طلبه بالرفض ممن إستدرجوه بالحديث قبل برهن السلاح مقابل إقراضهم وبعد هذه الواقعة بأشهر قليلة جاءت غزوة أحد في شهر شوال عام 3 هجرية وشارك فيها إبن مسلمة وإستعمله النبي في ليلة الغزوة على الحرس فِي 50 رجلا يطوفون بالعسكر وفي صباح اليوم التالي شارك في المعركة ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفارقه وظل وثبت معه حين إضطرب حال المسلمين يقاتل ويدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم وعندما جرح النبي صلى الله عليه وسلم خرج محمد بن مسلمة رضي الله عنه يطلب من النساء اللائي كن مرافقات للجيش يسقين العطشى ويداوين المصابين والجرحى ماء لكي يشرب النبي فلم يجد عندهن ماء وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عطش عطشا شديدا فإخترق محمد بن مسلمة رضي الله عنه الصفوف بين السيوف والحراب وإضطراب حال المسلمين حتى وصل إلى موضع به ماء عذب وإستقى وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بالماء فشرب ودعا له بخير وهكذا كان عمل محمد بن مسلمة رضي الله عنه يعادل في أيامنا هذه وظيفتي الشرطة العسكرية والمخابرات الحربية والإستطلاع يحرس الجيش في الميدان ليلا ويكشف الطريق ويفتحها أمام الجيش أثناء إنتقاله ويلقي القبض على المجرمين ويعاقب القتلة فكان هو أول رئيس للمخابرات في عهد الدولة الإسلامية وأول رئيس لجهاز الإستطلاع فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسله لمعاينة أي مكان يريده فيسبق الجيش الإسلامي ليستكشف الطريق ومكان المعركة ويتحسس أخبار العدو ويتحرى عن الأعداء وأيضا عن الولاة وبعض المشتبه فيهم في دولة الإسلام وفي القبائل التي كانت تسكن الجزيرة العربية كما كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم رسائله إلى القبائل وكان يكتب في آخرها كتب محمد بن مسلمة الأنصارى كان منها ما كتبه لوفد أهل مهرة الذين كانوا يسكنون عمان وكان هذا الوفد قد قدم المدينة فعرض عليهم رسول الله الإسلام فأسلموا وكتب لهم هذا كتاب من محمد رسول الله لمهرى بن الأبيض على من آمن به من مهرة ألا يؤكلوا ولا يعركوا وعليهم إقامة شرائع الإسلام فمن بدل فقد حارب ومن آمن به فله ذمة الله وذمة رسوله اللقطة مؤداة والسارحة منداة والتفث السيئة والرفث الفسوق ولا يؤكلون أى لا يغار عليهم وعلاوة على ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسله ليأتي بالصدقات من الإمارات الإسلامية .
وبعد غزوة أحد حاول يهود بني النضير والذين كانوا يسكنون جنوبي المدينة المنورة إغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يلقوا صخرة عليه من أعلى منزل أثناء جلوسه بينهم للتفاوض في أمر دية قتيلين إلا أن الوحي أعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بالمؤامرة فقام من مكانه وإنصرف وفشلت المحاولة وردا على ذلك صمم الرسولُ صلى الله عليه وسلم على محاربة بني النضير الذين نقضوا العهد والمواثيق معه وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتهيؤ لقتال بني النضير والسير إليهم وأرسل محمد بن مسلمة إليهم وقال له إذهب إلى يهود بني النضير وقل لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم أن إخرجوا من بلادي لقد نقضتم العهد الذى جعلت لكم مما هممتم به من الغدر وقد أجلتكم عشرا فمن رئي بعد منكم ضربت عنقه ولم يجدوا جوابا يردون به سوى أن قالوا لمحمد بن مسلمة أبلغ محمد ما كنا نظن أن يجيئنا بهذا رجل من الأوس فقال النبي صلى الله عليه وسلم تغيرت القلوب ومحا الإسلام العهود فقالوا نتحمل فمكثوا أياما يعدون العدة للرحيل وفي تلك المدة أرسل إليهم عبد الله بن أبي بن سلول من يقول لهم إثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم وإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن أخرجتم خرجنا معكم ولا تخرجوا فإن معي من العرب وممن إنضوى إلى قومي ألفين فأقيموا فهم يدخلون معكم حصونكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يصلوا إليكم فعادت لليهود بعض ثقتهم وتشجعَ كبيرهم حيي بن أخطب وأرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له إنا لن نريم أى لن نبرح دارنا فإصنع ما بدا لك فكبر الرسول وكبر المسلمون معه وقالوا إذن هي الحرب يا يهود وإنقضت الأيام العشرة ولم يخرج يهود بني النضير من ديارهم فتحركت جيوش المسلمين صوبهم وإستعمل النبي محمد على المدينة عبد الله بن أم مكتوم وسار إليهم وكان الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحمل اللواء فلما إنتهى إليهم فرض عليهم الحصار لمدة خمس عشرة ليلة ولجأ بنو النضير إلى حصونهم فأقاموا عليها يرمون بالنبل والحجارة وكانت نخيلهم وبساتينهم عونا لهم في ذلك فأمر الرسول بقطعها وتحريقها وفي النهاية أدرك بنو النضير أن لا مفر من جلائهم بعد أن دب اليأس والرعب في قلوبهم وخاصة بعد أن أخلف عبد الله بن أبي بن سلول وعده بنصرهم وعجز إخوانهم أن يسوقوا إليهم خيرا أو يدفعوا عنهم شرا فأرسلوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يلتمسون منه أن يؤمنهم حتى يخرجوا من ديارهم فوافقهم وقال لهم إخرجوا منها ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة وهي الدروع والسلاح فرضوا بذلك وحملوا معهم كميات كبيرة من الذهب والفضة حتى أن سلام بن أبي الحقيق وحده حمل جلد ثور مملوءا ذهبا وفضة وكان يقول هذا الذى أعددناه لرفع الأرض وخفضها وإن كنا تركنا نخلا ففي خيبر النخل وحملوا أمتعتهم على ستمائة بعير وخرجوا ومعهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن من خلفهم حتى لا يشمت بهم المسلمون فقصد بعضهم خيبر وسار آخرون إلى الشام وأسلم منهم رجلان فقط يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب وقد تولى عملية إخراجهم من المدينة المنورة الصحابي محمد بن مسلمة رضي الله عنه بأمر من الرسولِ صلى الله عليه وسلم وكان من أشرافهم الذين ساروا إلى خيبر أبو رافع سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وصحبته إبنته السيدة صفية التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم فيما بعد وصارت من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعا فلما نزلوها دان لهم أهلها ورحبوا بهم ونزلت في غزوة بني النضير سورة الحشر بأكملها فوصفت طرد اليهود وفضحت مسلك المنافقين وبينت أحكام الفئ وأثنت على المهاجرين والأنصار وبينت جواز القطع والحرق في أرض العدو للمصالح الحربية وأن ذلك ليس من الفساد في الأرض وأوصت المؤمنين بإلتزام التقوى والإستعداد للآخرة ثم ختمت بالثناء على الله تعالى وبيان أسمائه وصفاته وكان الإمام عبد الله بن عباس رضي الله عنه يقول عن سورة الحشر قل سورة النضير .
وفي شهر شوال عام 5 هجرية شارك محمد بن مسلمة رضي الله عنه في حفر الخندق شمالي المدينة وذلك بعد أن كانت إستخبارات الدولة الإسلامية والتي كانت على حذر تام من أعدائها وكانت تتابع تحركات اليهود وقبائل نجد وقريش قد أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بتجمع جيش يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل أربعة آلاف من قريش وأحلافها وستة آلاف من غطفان وأحلافها بني أسد وسليم وتوجهه نحو المدينة وعلى الفور شرع الرسول محمد في إتخاذ الإجراءات الدفاعية اللازمة ودعا إلى إجتماع عاجل حضره كبار الصحابة وقادة جيش المسلمين من المهاجرين والأنصار وبحث فيه معهم هذا الموقف الخطير فأشار الصحابي الجليل سلمان الفارسي على الرسول محمد بحفر خندق شمالي المدينة قائلا يا رسول الله إنا كنا في أرض فارس إذا حوصرنا وخوفتنا الخيل خندقنا علينا فهل لك يا رسول الله أن تخندق وكان الجانب الشمالي من المدينة هو الجانب المكشوف أمام العدو والذي يستطيع منه دخول المدينة وتهديدها أما الجوانب الأخرى فهي حصينة منيعة تقف عقبةً أمام أى هجوم يقوم به الأعداء أو أى محاولة لدخول المدينة من تلك الجهات حيث كانت الدور من ناحية الجنوب متلاصقة عالية كالسور المنيع وكانت حرة واقم من جهة الشرق وحرة الوبرة من جهة الغرب تقومان مقام حصن طبيعي وكانت حصون بني قريظة في الجنوب الشرقي كفيلة بتأمين ظهر المسلمين إذ كان بين الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبني قريظة عهد ألا يمالئوا عليه أحدا ولا يناصروا عدوا ضده وأَعجب المسلمون برأى سلمان رضي الله عنه وقال المهاجرون سلمان منا وقالت الأنصار سلمان منا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم سلمان منا أهل البيت وأثناء حفر الخندق كانت هناك مجموعة من الأنصار تقوم بحراسة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في كل ليلة وعلى رأسهم الصحابيين الأنصاريين عباد بن بشر ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهما وبعد إنتهاء الغزوة وإنسحاب الأحزاب وفك الحصار عن المدينة كانت غزوة بني قريظة الذين خانوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم وعرضوا حياة المسلمين للخطر فنزل الملك جبريل عليه السلام وطلب من النبي التوجه لحصار بني قريظة وصحبه محمد بن مسلمة رضي الله عنه ووقف يحرسه طوال أيام الحصار حتى إستسلمت بنو قريظة وقضى فيهم سيد الأوس الصحابي الأنصارى سعد بن معاذ ر ضي الله عنه بأن تقتل المقاتلة الذين ناصروا الأحزاب وأن تسبى النساء والذرية وأن تقسم أموالهم وأن تؤخذ منهم الديار وتوزع على المهاجرين دون الأنصار فأقره الرسولُ محمد صلى الله عليه وسلم وقال له لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك مهمة تأديب الخونة لحارسه ورئيس مخابراته محمد بن مسلمة الذى كان يجيد التعامل ويحسن تصريف الأمور وكانت هيبته وجسده الضخم ترعبان أعداء الله وعندما إستسلم يهود بني قريظة وحكم عليهم سعد بن معاذ الحكم السالف الذكر أَمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم محمد بن مسلمة بالتعامل مع الخونة فكتف إبن مسلمة الرجال الذين حكم عليهم بالقتل وأخرج النساء والأطفال فكانوا في ناحية أخرى وكان حيي بن أخطب قد دخل مع بني قريظة في حصنهم بعد الجلاء حين رجعت عنهم قريش وغطفان طبقا لإتفاقه مع كعب بن أسد ونفذ حكم الإعدام في عدد أربعمائة في سوق المدينة حيث حفرت أخاديد وقتلوا فيها بشكل مجموعات وكان منهم حيي بن أخطب الذى جئ به ويداه مجموعة إلى عنقه بحبل فلما نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل ثم أقبل على الناس فقال أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر ملحمة كتبها الله على بني إسرائيل ثم جلس فتم ضرب عنقه وكذلك جئ بكعب بن أسد زعيم بني قريظة وتم ضرب عنقه ومما يذكر أنه قد نجت مجموعة قليلة جدا من يهود بني قريظة وهم الذين أوفوا بعهدهم مع المسلمين ودخلوا في الإسلام وكان هذا هو الجزاء العادل الذى إستحقه من أراد الغدر وتبرأ من حلفه للمسلمين فكان جزاؤهم من جنس عملهم حين عرضوا بغدرهم وخيانتهم أرواح المسلمين للقتل وأموالهم للنهب ونساءهم وذراريهم للسبي فكان أن عوقبوا بذلك جزاءا وفاقا على ما إقترفته أيديهم .
|