بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل بن عبد العزى بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد ود بن عوف بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة رضي الله عنه صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكنى بأبي محمد وبأبي زيد ويعود نسبه إلى بني كلب إحدى قبائل منطقة دومة الجندل القديمة بشمال الجزيرة العربية وهي أحد بطون قبيلة قضاعة وكان بنو كلب قبيلة عربية كبيرة ومشهورة والتي كانت عاصمتها ومقر ديارها مدينة دومة الجندل والتي تقع حاليا في شمال المملكة العربية السعودية وكانت تقع على ملتقى الطرق ما بين الحجاز والشام والعراق وكانت علاقتها بقريش علاقات ود وصداقة ولذا فقد كانت قوافل قريش التجارية المتجهة إلى بلاد الشام والعائدة منها تمر دون أن يمسسها سوء وكان من أعلامها الصحابي الجليل دحية بن خليفة بن فروة الكلبي رضي الله عنه والسيدة نائلة بنت الفراقصة زوجة الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه والصحابي الجليل زيد بن حارثة والد أسامة بن زيد رضي الله عنهما وكان زيد قد تعرض للأسر وهو غلام صغير حيث إختطفته خيل بني القين بن جسر قبل الإسلام حين أغارت على ديار بني معن أهل أمه وكان زيد معها في زيارة لأهلها فباعوه في سوق عكاظ بمكة المكرمة فإشتراه حكيم بن حزام بن خويلد بأربعمائة درهم وأهداه لعمته السيدة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وكان ذلك قبل زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم فلما تزوجها النبي قبل البعثة بخمسة عشر عاما وهبته له لكي يكون في خدمته ثم مر زمن وحج أناس من قبيلته كلب فرأوه فعرفهم وعرفوه ثم عادوا وأخبروا أباه بمكانه فخرج أبوه حارثة وعمه كعب يفتدونه وإلتقوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وكان ذلك قبل البعثة وطلبوا فدائه فدعاهما إلى تخيير زيد نفسه إن شاء بقي وإن شاء عاد مع أهله دون مقابل ثم دعاه النبي محمد وقال له فأنا من قد علمت ورأيت صحبتي لك فإخترني أو إخترهما فقال زيد ما أنا بالذى أختار عليك أحدا أنت مني بمكان الأب والأم فتعجب أبوه وعمه وقالا ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك فقال نعم إني قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذى أختار عليه أحدا أبدا فلما رأى النبي محمد منه ذلك خرج به إلى صحن الكعبة المشرفة وقال يا من حضر إشهدوا أن زيدا إبني أرثه ويرثني فلما رأى ذلك أبوه وعمه إطمأنا وإنصرفا فصار زيد يدعي زيد بن محمد وأطلق عليه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وظل هكذا حتى نزل قوله تعالى في سورة الأحزاب ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وبهذه الآية حرم التبني في الإسلام فعاد لزيد إسمه الأصلى زيد بن حارثة وبعد البعثة كان زيد من السابقين الأولين للإسلام فكان إسلامه بعد السيدة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وقبل أبي بكر الصديق رضي الله عنه فكان أول الموالي إسلاما ومنذ إسلامه صحب زيد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولازمه في حله وفي ترحاله وحدث أن كان الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم يجتمع بأصحابه في دار الأرقم بن أبي الأرقم فذهبت إليه حاضنته ومولاته السيدة أم أيمن بركة بنت ثعلبة الحبشية رضي الله عنها فأخبرته بأمر كانت السيدة خديجة رضي الله عنه قد كلفتها به ولما إنصرفت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى أصحابه وقال لهم من منكم يريد أن يتزوج إمرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن وسكت الصحابة جميعا ولم يجب أحد منهم بشئ ذلك أن أم أيمن رضي الله عنها لم تكن إمرأة جميلة يطمع فيها الرجال فقد كانت في الخمسين من عمرها كما كانت هزيلة الجسم سوداء اللون ولكن تقدم إلى الرسول زيد بن حارثة رضي الله عنه وتزوج بها فأنجبت له أسامة بن زيد رضي الله عنه وكان ذلك على الأرجح في السنة السابعة او الثامنة قبل الهجرة فكانت حياة أسامة كلها في الإسلام وأصبح يطلق عليه الحب إبن الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وتربى أسامة بن زيد رضي الله عنه في بيت النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يعيش والده زيد بن حارثة رضي الله عنه حب رسول الله ووالدته أم أيمن رضي الله عنها مربية النبي صلى الله عليه وسلم ويصف الرواة والمؤرخون الصحابي الجليل أسامة بن زيد رضي الله عنه بأنه كان أسود اللون أفطس الأنف ولكن دين الإسلام لا يعبأ بالأشكال الظاهرية للناس فلقد بلغ من ذلك كله المدى الذى هيأه لهذا الفيض من حب رسول الله وتقديره فقال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم إن أسامة بن زيد رضي الله عنه لمن أحب الناس إلي وإني لأرجو أن يكون من صالحيكم فإستوصوا به خيرا وكان أسامة بن زيد رضي الله عنه مالكا لكل الصفات العظيمة التي تجعله قريبا من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبيرا في عينيه فهو إبن مسلمين كريمين من أوائل المسلمين سبقا إلى الإسلام ومن أكثرهم ولاءا للرسول صلى الله عليه وسلم وقربا منه وكان من أبناء الإسلام الحنفاء الذين ولدوا فيه وتلقوا رضعاتهم الأولى من فطرته دون أن يدركهم من غبار الجاهلية المظلمة شئ فهذا الأسود الأفطس يأخذ في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وفي صفوف المسلمين مكانا عليا لأن الدين الذى إرتضاه الله لعباده قد صحح معايير الآدمية والأفضلية بين الناس فقال إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ وبعد بيعة العقبة الثانية هاجر زيد بن حارثة رضي الله عنه بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم ونزل ضيفا على الصحابي الأنصارى كلثوم بن الهدم رضي الله عنه ولما آخى النبي محمد بين أصحابه آخى بين زيد بن حارثة وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما وقيل بينه وبين أسيد بن حضير رضي الله عنه وبعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وإستقر بها أرسل زيد بن حارثة رضي الله عنه ومولاه أبا رافع إلى مكة المكرمة ليحملا من بقي من أهل النبي وأهل زيد إلى المدينة وهم أم المؤمنين السيدة سودة بنت زمعة رضي الله عنها وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهما إبنتي النبي رضي الله عنهما وأم أيمن رضي الله عنها وإبنها أسامة بن زيد رضي الله عنهما وإستقر أسامة مع ابيه وامه في المدينة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذه فيجلسه على فخذه اليمنى ويجلس سبطيه الحسن والحسين رضي الله عنهما على فخذه اليسرى ثم يضمهم ثم يقول اللهم إني أرحمهما فإرحمهما وفي رواية اللهم إني أحبهما فأحبهما وإشتهر أسامة بن زيد بالشجاعة والقوة وحب الجهاد في سبيل الله منذ صغره لكنه لم يشارك رضي الله عنه في غزوتى بدر وأحد لصغر سنه وفي المرتين كان يعود باكيا ويعاود الكرة مرة ثانية وثالثة فكان النبي يطلب منه أن يطبب الجرحى من المقاتلين فكان يفرح فرحا شديدا وفي يوم الخندق جاء إلى رسول الله وجعل يشد قامته ليجيزه للجهاد في سبيل الله فرق له النبي وأجازه ولما سأله النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإفك التي إتهم فيها المنافقون السيدة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أثنى عليها خيرا وقال يا رسول الله أهلك وما نعلم منهم إلا خيرا وما قيل في حقها هو الكذب والباطل .
وفي شهر جمادى الأولى عام 8 هجرية خرج والده زيد بن حارثة رضي الله عنه على رأس جيش المسلمين المتجه للشام لتأديب الغساسنة الذين قتلوا مبعوث النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك بصرى ليدعوه إلى الإسلام وكانت غزوة مؤتة وخرج أسامة مع أبيه مجاهدا وحين إستشهد أبوه ظل يقاتل تحت لواء جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ثم تحت لواء عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ثم تحت لواء خالد بن الوليد رضي الله عنه ثم عاد إلى المدينة المنورة محتسبا أباه عند الله راكبا جواده الذى إستشهد عليه فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم دمعت عينا النبي فلما كان اليوم التالي أتاه أسامة مرة أخرى فقال له ألاقي منك اليوم مثل ما لاقيت منك أمس وعندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان عام 8 هجرية لفتح مكة كان رديفه هذا الأسود الأفطس أسامة بن زيد رضي الله عنه ودخل مكة وهو أيضا رديفه ثم دخل الكعبة المشرفة في أكثر ساعات الإسلام روعة وعن يمينه ويساره بلال بن رباح وأسامة بن زيد رضي الله عنهما رجلان تكسوهما البشرة السوداء الداكنة ومعهما عثمان بن طلحة صاحب مفاتيحها وبعد أن دخلها أغلقها عليهم ثم مكث فيها ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فسألت بلالا رضي الله عنه حين خرج ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى وفي يوم الفتح حدث أن سرقت إمرأة من بني مخزوم ففزع قومها إلى أسامة بن زيد رضي الله عنه يستشفعونه ويطلبون منه أن يتكلم مع النبي في شأنها فلما كلم أسامة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيها تلون وجهه وقال لأسامة أتكلمني في حد من حدود الله فقال أسامة رضي الله عنه أستغفر لي يا رسول الله فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذى نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها فحسنت توبتها بعد ذلك وقالت السيدة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما فكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد فتح مكة شهد أسامة بن زيد رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة حنين في شهر شوال عام 8 هجرية وحينما إنهزم المسلمون في البداية ثبت أسامة مدافعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نفر من الصحابة وإستطاع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الفئة الصغيرة الباسلة أن يحول هزيمة أصحابه إلى نصر وأن يحمي المسلمين الفارين من أن يفتك بهم المشركون وذلك بعد أن طلب من عمه العباس رضي الله عنه الذى ثبت معه أن ينادى عليهم ويذكرهم بيوم بدر ويوم بيعة الرضوان وغيرها من المشاهد وأخذ يحثو التراب في وجوه المشركين وهو يقول أنا النبي لا كذب أنا إبن عبد المطلب ومما يذكر أنه في هذه الغزوة إستشهد أيمن بن عبيد بن زيد بن الحارث الخزرجي أخو أسامة بن زيد من الأم وبعد إنتصار المسلمين في غزوة حنين شهد أسامة رضي الله عنه حصار الطائف .
وقبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بحوالي سنتين وفي أواخر عام 8 هجرية ذات يوم تلقى أسامة بن زيد رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم درس حياته حيث بعثه أميرا على سرية خرجت للقاء بعض المشركين الذين يناوئون الإسلام والمسلمين وذلك بموضع لقبيلة جهينة يسمى الحرقة وسمي بهذا الإسم لأنهم أحرقوا فيه بني سهم بن مرة بن عوف بالنبل في عهد جدهم جهيش بن عامر وكانت تلك أول إمارة يتولاها أسامة بن زيد وأوصاه النبي هو وجنوده بتقوى الله وحده لا شريك له وطاعته ثم رتبهم إثنين إثنين بحيث لا يفارق أحدهما أخاه إلا إن قتل وأمرهم إن كبر أميرهم بأن يكبروا مثله ويجردوا سيوفهم ويحملوا حملة واحدة وهو ما حدث فعلا ولقد أحرزت هذه السرية النجاح والفوز في مهمتها وغنم المسلمون الكثير من النعم والشاء وأرسل أسامة بشيرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك ففرح وسر بهذه الأنباء ولما عاد أسامة رضي الله عنه وأتى النبي صلى الله عليه وسلم لقيه وهو متهلل الوجه فأدناه منه ثم قال حدثني فجعل أسامة يحدثه وذكر له أنه لما إنهزم القوم أدرك رجلا من بني مرة إسمه مرداس بن نهيك فأهوى عليه بالرمح فقال لا إله إلا الله فطعنه فقتله فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ويحك يا أسامة فكيف لك بلا إله إلا الله فلم يزل يرددها حتى تمنى أسامة رضي الله عنه أنه إنسلخ من كل عمل قام به وإستقبل الإسلام يومئذ من جديد فلا يقاتل أحدا قال لا إله إلا الله بعد ما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان هذا الرجل الذى أسف النبي صلى الله عليه وسلم لمقتله وأنكر على أسامة بن زيد رضي الله عنه قتله مشركا ومحاربا وهو حين قال لا إله إلا الله قالها والسيف في يمينه تتعلق به مزع اللحم التي نهشها من أجساد المسلمين قالها لينجو بها من ضربة قاتلة أو ليمنح نفسه فرصة يغير فيها إتجاهه ثم يعاود القتال من جديد ومع هذا فلأنه قال الشهادة وتحرك بها لسانه فقد عصم نفسه ويصير دمه حراما وحياته آمنة في نفس اللحظة ولنفس السبب وندم أسامة ندما شديدا على قتله مرداس بن نهيك ومنذ ذلك اليوم عاهد أسامة رضي الله عنه الله ألا يقتل رجلا يقول بشهادة التوحيد أبدا وبعد ذلك وفي شهر رجب عام 9 هجرية شهد أسامة بن زيد مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك ثم حجة الوداع في أواخر العام العاشر الهجرى وقد أخرج إبن سعد عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر إفاضة الحجيج من عرفة من أجل أسامة بن زيد رضي الله عنه وظل ينتظره حتى جاء هذا الغلام الأفطس الأسود البشرة وهو أسامة بن زيد رضي الله عنه فقال أهل اليمن إنما حبسنا من أجل هذا .
وقبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأيام قليلة وفي أواخر شهر صفر عام 11 هجرية أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالتهيؤ لغزو الروم فلما كان اليوم التالي دعا أسامة بن زيد رضي الله عنه وكان لم يبلغ العشرين من عمره بعد وقال له سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش فأغر صباحا على أهل أبنى وحرق عليهم وأسرع السير تسبق الأخبار فإن ظفرك الله فأقلل اللبث فيهم وخذ معك الأدلاء وقدم العيون والطلائع أمامك وبعد يومين بدا النبي صلى الله عليه وسلم يشعر بصداع شديد فلما أصبح في اليوم التالي عقد لأسامة لواء بيده ثم قال أغز بسم الله في سبيل الله فقاتل من كفر بالله فخرج بلوائه فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي وعسكر في منطقة الجرف قرب المدينة المنورة فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار إلا إنتدب في تلك الغزوة حيث كان فيهم الصحابة الكرام الكبار رضي الله عنهم وأرضاهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فتكلم قوم وقالوا يستعمل النبي هذا الغلام على المهاجرين الأولين فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميرى أسامة ولئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أبيه من قبله وأيم الله إن كان للإمارة لخليقا وإن إبنه من بعده لخليق للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وإنهما لمخيلان لكل خير وإستوصوا به خيرا فإنه من خياركم ثم نزل فدخل بيته وجاء المسلمون الذين سيخرجون مع أسامة يودعون النبي محمد فجعل يقول أنفذوا بعث أسامة وبعد ثلاثة أيام إشتد بالنبي محمد وجعه فدخل أسامة من معسكره والنبي مغمور فطأطأ أسامة رأسه فقبله والنبي لا يتكلم فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة قال فعرفت أنه يدعو لي ورجع أسامة إلى معسكره ثم دخل يوم الإثنين 12 من شهر ربيع الأول عام 11 هجرية وأصبح النبي مفيقا فأتاه أسامة فقال له إغد على بركة الله فودعه أسامة وخرج إلى معسكره فأمر الناس بالرحيل وبينما هو يريد الركوب إذا رسول أمه أم أيمن قد جاءه يقول إن رسول الله يموت فأقبل وأقبل معه عمر وأبو عبيدة فإنتهوا إلى النبي وهو يموت وبالفعل كانت وفاته في اليوم المذكور ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة المنورة ودخل بريدة بن الحصيب بلواء أسامة معقودا حتى أتى به باب النبي صلى الله عليه وسلم فغرزه عنده وبالطبع فأمام هذا الحدث الجلل تأجل خروج جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه وشارك اسامة في تغسيل النبي صلى الله عليه وسلم مع عصبته من بني هاشم وهم إبن عمه علي بن أبي طالب وعمه العباس مع إبنيه الفضل وقثم وشقران مولى النبي رضي الله عنهم جميعا وقد تم تغسيله وثيابه عليه دون أن تنزع منه ودفن في موضع وفاته في حجرة السيدة عائشة رضي الله عنها .
ولما بويع أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة أمر بريدة بن الحصيب باللواء إلى بيت أسامة ليمضي لوجهه فمضى به بريدة إلى معسكرهم الأول فلما إرتدت العديد من قبائل العرب عن الإسلام تكلم بعض الصحابة مع الخليفة أبي بكر في حبس أسامة فأبى وقال والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله ولو أن الطير تخطفنا والسباع من حول المدينة ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة ولما رأى الناس إصراره الشديد على خروج الجيش تنفيذا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم فحاولوا إقناعه بأن يغير القائد وأن يولي أحد الكبار مكان الشاب أسامة الذى لم يكمل العشرين عاما من عمره ويحدث عمر بن الخطاب أبا بكر الصديق في هذه المسألة فيغضب أبو بكر ويأخذ بلحية عمر بن الخطاب ويقول له ثكلتك أمك يا إبن الخطاب أمنع أميرا أمره رسول الله عن إمارة جيشه وكلم أبو بكر أسامة في عمر أن يأذن له في التخلف ليبقى إلى جواره بالمدينة المنورة ففعل فلما كان هلال شهر ربيع الثاني عام 11 هجرية خرج الخليفة أبو بكر الصديق يودع أسامة وجيشه ومشى معه وأسامة راكب فرسه فقال يا خليفة رسول الله إما أن تركب وإما أن أنزل فقال أبو بكر والله لا تنزل ولا أركب وما علي إلا أن أغبر قدمي ساعةً في سبيل الله ثم أوصى أسامة بنفس الوصية التي كان قد أوصاه بها النبي صلى الله عليه وسلم وخرج أسامة فسار إلى أهل أبنى 20 ليلة فشن عليهم الغارة وكان شعارهم يا منصور أمت فقتل من أشرف له وسبى من قدر عليه وحرق في طوائفها بالنار وحرق منازلهم وحروثهم ونخلهم وكان أسامة رضي الله عنه على فرس أبيه سبحة وقتل قاتل أبيه في تلك الغارة فلما أمسى أمر الناس بالرحيل فوردوا وادى القرى في تسع ليال ثم بعث بشيرا إلى المدينة المنورة يخبر بسلامتهم ثم واصل السير إلى المدينة وما أصيب من المسلمين أحد وخرج أبو بكر في المهاجرين وأهل المدينة يتلقونهم سرورا بسلامتهم ودخل على فرس أبيه سبحة واللواء أمامه يحمله بريدة بن الحصيب حتى إنتهى إلى المسجد فدخل فصلى ركعتين ثم إنصرف إلى بيته وهكذا إستطاع هذا الجيش أن يقوم بمهمته على خير وجه ويعود ظافرا إلى المدينة المنورة وظهرت موهبة أسامة بن زيد الفذة في قيادة الجيش وأثبت أنه كان على الرغم من صغر سنه جديرا بهذه القيادة وهنا يقفز في أذهاننا سؤال هام وهو ياترى ما هو السبب في إصرار الخليفة العظيم أبي بكر الصديق رضي الله عنه على خروج جيش أسامة غير حرصه على إنفاذ أمر كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قرره قبل وفاته والجواب ببساطة هو إدراك الخليفة أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم وإذا بقي الجيش في المدينة لتحصينها في إنتظار هجوم القبائل التي إرتدت عن الإسلام المجتمعة والمحيطة بالمدينة المنورة فإن هذا الجيش لن يقوى على الدفاع والثبات أمام الأعداد الضخمة من المرتدين وستكون المدينة ساعتها في خطر حقيقي وأبو بكر يعلم أن النبي ودعوته نصرت بالرعب لذلك فإن خروج جيش أسامة يعلن بما لا يدع مجالا للشك أن الإسلام باق على قوته التي كان عليها أثناء حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأن جيوشه ستخرج لمواجهة الروم خارج حدود الجزيرة العربية فكان جيش أسامة رضي الله عنه كلما مر على قبيلة من القبائل المرتدة أو سمعت به وبتحركه لمواجهة الروم قالوا ما أخرج أبو بكر هذا الجيش إلا وعنده غيره وكانت هذه الفكرة بداية الهزيمة النفسية في قلوب المرتدين مما دفع بعضهم إلى العودة للإسلام حذرا من مواجهة الجيوش الإسلامية القوية التي تحارب الروم ولا تخشاهم فكيف بقدرتها على محاربة العرب وهكذا فقد تحقق من خروج جيش أسامة عدد من الفوائد والمكاسب للمسلمين على رأسها التأكيد على أن سلسلة الحروب مع الرومان وقوى الشر العالمية مستمرة حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم تضعف من عزيمة المسلمين وقوتها شيئا وأنه على العرب المرتدين أن يخافوا مواجهة جيش المسلمين لأنهم أضعف من أن يقدروا على هذه المواجهة وأن جيش المسلمين من القوة والنظام والإنضباط بحيث ينقاد إلى قائد شاب ممتلئ بالطموح والقدرة وكل هذه الفوائد قد تحققت ببركة إصرار الخليفة العظيم أبي بكر الصديق رضي الله عنه على تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم وإنفاذه بعث جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه في الوقت المحدد بلا إبطاء ولا تأجيل أو تغيير .
وبعد ذلك شارك أسامة بن زيد رضي الله عنه في حروب الردة في عهد الخليفة العظيم أبي بكر الصديق رضي الله عنه فكان على الخيالة يوم اليمامة ثم شارك في الفتوحات ببلاد الشام التي قامت بعد ذلك في عهد الخليفتين الراشدين الأول والثاني أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وبخلاف جهاده في سبيل الله وملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم كان للصحابي أسامة بن زيد رضي الله عنه العديد من المواقف مع النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام والتابعين منها ما رواه إبنه محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة أهداها له الصحابي دحية الكلبي رضي الله عنه فكسوتها إمرأتي فقال رسول الله ما لك لا تلبس القبطية قلت كسوتها إمرأتي فقال مرها فلتجعل تحتها غلالة فإني أخاف أن تصف عظامها وعن أسامة بن زيد قال قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أرك تصوم شهرا من الشهور ما تصوم من شعبان قال ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم وعن هشام بن عروة عن أبيه لما فرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه للناس فرض لأسامة بن زيد رضي الله عنه خمسة آلاف درهم ولإبن عمر ألفين فقط فقال إبن عمر رضي الله عنهما لأبيه فضلت علي أسامة وقد شهدتُ ما لم يشهد فقال إن أسامة كان أحب إلى رسول الله منك وأبوه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك وعن خلاد بن السائب رضي الله عنه قال دخلت على أسامة بن زيد رضي الله عنه فمدحني في وجهي فقال إنه حملني أن أمدحك في وجهك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا مدح المؤمن في وجهه ربا الإيمان في قلبه وعن مولى أسامة بن زيد أنه إنطلق مع أسامة إلى وادى القرى في طلب مال له فكان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس فقال له مولاه لمَ تصوم يوم الاثنين ويوم الخميس وأنت شيخ كبير فقال إن نبي الله كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس وسئل عن ذلك فقال إن أعمال العباد تعرض على الله يوم الاثنين ويوم الخميس وأحب أن تعرض أعمالي على الله وأنا صائم وعن التابعي عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال رأيت أسامة بن زيد يصلي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج مروان بن الحكم فقال تصلي إلى قبره فقال إني أحبه فقال له قولا قبيحا ثم أدبر فلما إنتهى أسامة من صلاته وإنصرف قال يا مروان إنك آذيتني وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يبغض الفاحش المتفحش وإنك فاحش متفحش وعلاوة على ذلك فقد روى الصحابي أسامة بن زيد بعض الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم منها ما رواه الإمام البخارى بسنده عن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما تركت بعدى فتنة أضر على الرجال من النساء وروى الإمام مسلم في صحيحه عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم وقد روى عن أسامة بن زيد رضي الله عنه 30 من الصحابة والتابعين منهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وسعيد بن المسيب وأبو هريرة وإبراهيم بن سعد بن أبي وقاص وغيرهم وبعد مقتل الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه إعتزل أسامة الفتنة بين الإمام علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما على الرغم من أنه كان مؤمنا بأن الحق في جانب الإمام علي ولكن كيف يقتل بسيفه مسلما يؤمن بالله ورسله وهو الذى لامه الرسول لقتله مشركا محاربا قال في لحظة إنكساره وهروبه لا إله إلا الله ولزم أسامة بن زيد رضي الله عنه داره وسكن قرية المزة غرب دمشق وحاليا تعد إحدى ضواحيها طوال هذا النزاع وتلك الحروب وحين جاءه بعض أصحابه يناقشونه في موقفه قال لهم لا أقاتل أحدا يقول لا إله إلا الله أبدا فقال له أحدهم ألم يقل الله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فأجابهم أسامة قائلا أولئك هم المشركون ولقد قاتلناهم حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله ثم عاد فسكن وادى القرى شمالي المدينة المنورة ثم إنتقل إلى المدينة المنورة فمات بها عام 54 هجرية في عهد الخليفة الأموى الأول معاوية بن أبي سفيان ودفن بالبقيع رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وجزاه عنا وعن الإسلام خير الجزاء .
|