بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر المكنى بقريش بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن نبي الله إسماعيل عليه السلام بن نبي الله إبراهيم عليه السلام القرشي الكناني رضي الله عنه صحابي من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ويلتقي معه في الجد الثالث عبد مناف بن قصي بن كلاب فهو إذن من أبناء عمومة النبي صلى الله عليه وسلم ويعد من النجوم الساطعة في سماء الإسلام حيث كان من السابقين إلى الإسلام حيث أسلم قبل دخول النبي محمد صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن الأرقم رضي الله عنه ليدعو فيها إلى الإسلام وقيل إنه أسلم بعد 43 إنسانا وقد عرف بكنيته أبي حذيفة وقد إختلف في إسمه الحقيقي فقيل مهشم وقيل هشيم وقيل هاشم وقيل قيس كان أبوه عتبة بن ربيعة سيدا من كبار سادات قريش في الجاهلية ووجيه من وجهاء مكة ومن حكماء قريش وشخصية بارزة عند ظهور الإسلام وكلن يلقب بالعدل لأنه كان يعدل قريش كلها بالحلم والرأى السديد كما أنه كان من أبرع فرسان قريش وكان يجيد فنون القتال والمبارزة وكان يتميز بطول القامة وقوة البنية ولما بدأت الدعوة إلى الإسلام كان من أشد المعارضين للدعوة والمكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم ومن أشد مشركي مكة المكرمة إيذاءا له ولضعفاء المسلمين هو وشقيقه الأكبر شيبة بن ربيعة وإبنه الأكبر الوليد بن عتبة والذى كان من أبرز فرسان قريش بالإضافة إلى شقيقته هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان بن حرب واللذان أسلما بعد ذلك يوم الفتح وحسن إسلامهما وخرجا للجهاد في فتوحات الشام في عهد الخليفتين الراشدين الأول والثاني أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ومما يذكر أن كلا من الأخوين عتبة وشيبة والوليد بن عتبة كانوا من الستة الذين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم عند الكعبة المشرفة قائلا اللهم عليك بهم عندما إجتمعوا عليه في صحن الكعبة يسخرون منه ويسبونه ويعتدون عليه فكان أن إستجاب الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وقتل الستة جميعا في غزوة بدر في شهر رمضان عام 2 هجرية وأما زوجة الصحابي أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة رضي الله عنه فهي الصحابية الجليلة السيدة سهلة بنت السهيل بن عمرو رضي الله عنها إبنة الصحابي السهيل بن عمرو الذى كان سيدا لبني عامر وأحد وجهاء مكة وخطيبها المفوه والذى فاوض النبي محمد صلى الله عليه وسلم المفاوضات التي أسفرت في النهاية عن توقيع صلح الحديبية في شهر ذى القعدة عام 6 هجرية وقد أسلم يوم الفتح ومات غازيا في بلاد الشام في طاعون عمواس عام 18 هجرية وكان ميلاد الصحابي الجليل أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة في العام الواحد والأربعين قبل الهجرة ونشأ في كنف أبيه وكان شابا طويلا حسن الوجه فصيح اللسان راجحَ العقل وملأ نوادى مكة حيوية وإنطلاقا ولما تزوج من سهلة بنت السهيل بن عمرو أحاطت به الوجاهة والسيادة من كل مكان وكان قلب أبي حذيفة ينكر ويرفض الكثير مما إعتادته العرب في الجاهلية وعلى رأس ذلك عبادتهم لأوثان لا تضر ولا تنفع وذلك بعكس أبيه وعمه وشقيقه وشقيقته وصار كأنه يبحث عن فجر يضـئ نوره ظلمات الجاهلية وبقي كذلك حتى أشرقت شمس الإسلام في مكة فكان هو وزوجته وسالم مولاه كما أسلفنا من السابقين إلى الإسلام ومما يذكر أن أبا حذيفة كان قبل ظهور الإسلام قد تبنى مولاه سالم رضي الله عنه وكان عبدا فارسيا من إصطخر والاه أبو حذيفة وأحبه وإعتبره ولده وأعطاه إسمه وعرف بإسم سالم بن أبي حذيفة وزوجه من إبنة أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وظل الوضع كذلك حتى تم تحريم التبني في الإسلام فجعله أبو حذيفة أخاه ومولاه ولما علم عتبة بنُ ربيعة بإسلام ولده إشتعلت نيران الغضب فيه ومن هنا بدأت المحنة في حياة أبي حذيفة وذاق طعم المعاناة بعدما كان يعيش حياة الرغد والسيادة والرفاهية والترف وضاقت عليه مكة وأوذى هو وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا في دينهم وكان منهم مَن تمزقت أشلاؤه تحت سياط الكفر والعناد .
وهنا أذن النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالهجرة إلى الحبشة قائلا لهم إن بها ملكا لا يظلم عنده أحد وخرج الصحابي أبو حذيفة وزوجته ومولاه سالم رضي الله عنهم جميعا ليلا متسللين مستخفين فركبا البحر مع عدد من المهاجرين حتى رست بهم سفينتهم على سواحل الحبشة فنزلوا بها ومكثوا فيها آمنين مطمئنين وهناك أنجبت له زوجته إبنه محمد وفي فترة وجود المهاجرين بالحبشة أسلم حمزة بن عبد المطلب ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فأعز الله الإسلام بهما فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه يوما عند الكعبة المشرفة فصلى بهم وقرأ بآيات من سورة النجم فإجتمع الناس حول الكعبة ينظرون إلى مشهد الصلاة المهيب ويستمعون إلى القرآن الكريم بصوت عذب يأْسر القلوب في لحظات خيمت فيها سحائب الخشوع فوق رؤوس الحاضرين جميعا فلما بلغ النبِي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا سَجَدَ النبي صلى الله عليه وسلم وسجد معه المسلمون والمشركون فأشيع بين الناس أن قريشا قد أسلمت وطار الخبر الكاذب إلى الحبشة فعاد أبو حذيفة ومعه أصحابه المهاجرون فرحين بالخبر فلما وصلوا مكة وجدوها مفروشةً لهم بألوان العذاب ولكن أبا حذيفة وآل بيته دخلوا في جوار أبيه عتبة بن ربيعة فلم يمسسهم سوء وقد تعجب عتبة بن ربيعة من حال ولده أبي حذيفة لما رأى ولده المترف المنعم قد ترك كل شئ في مكة وفر من أجل دينه بآل بيته إلى أرض بعيدة يعيش فيها غريبا فقيرا بعد الغنى والسيادة والشرف وبدأ الصراع في نفسه يبلغ ذروته صراع بين إعجابه بولده المنعم الذى هجر اللذائذ وتحمل ما لا يطاق من أجل دين إقتنع به فإتبعه وتمسك به حتى ملئ إِيمانا وبين غضبه من النبي صلى الله عليه وسلم الذى سول له الشيطان أنه فرق بينه وبين ولده وقد دفعه هذا الصراع إلى أن قال يوما وهو جالس في نادى قريش وكان النبي صلى الله عليه وسلم جالس بالمسجد وحده يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا فقالوا بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلمه فقام حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له يا إبن أخي إنك منا حيث قد علمت من المكانة في العشيرة والمكان في النسب وإتك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فإسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قل يا أبا الوليد أسمع فقال يا إبن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا بدونك وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له فلما فرغ عتبة من كلامه قال له النبي صلى الله عليه وسلم أقد فرغت يا أبا الوليد قال نعم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم فإسمع مني قال أفعل فقرأ عليه آيات من سورة فصلت حيث قال بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ فلما سمعها عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه ثم إنتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد ثم قال قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بوجه غير الذى ذهب به فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة يا معشر قريش أطيعوني وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فإعتزلوه فواالله ليكونن لقوله الذى سمعت منه نبأ عظيم فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به فقالوا لقد سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه فقال هذا رأيي فيه فإصنعوا ما بدا لكم ولما علم إبنه الصحابي أبو حذيفة أن أباه كاد أن يسلم ثم حاد عن الإسلام إعتراه الحزن الشديد .
وبعد بيعة العقبة الثانية أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة المنورة فهاجر أبو حذيفة رضي الله عنه بأهل بيته وإستقر في المدينة المنورة ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وإستقر بها آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين الصحابي الأنصارى عباد بن بشر رضي الله عنه وفي شهر رمضان عام 2 هجرية كانت غزوة بدر الكبرى والتي شهدها الصحابي الجليل أبو حذيفة بن عتبة مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان أبوه عتبة بن ربيعة وأخوه الوليد وعمه شيبة بن ربيعة يقاتلون في صفوف المشركين وقبل أن يلتحم الفريقان خرج كل من عتبة وشيبة والوليد يطلبون المبارزة فطلب أبو حذيفة رضي الله عنه من أبيه الكافر عتبة بن ربيعة أن يبارزه عملا بقوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم منع أبا حذيفة رضي الله عنه وقال له دعه يقتله غيرك وقالت أخته هند شعرا تسبه فيه حيث قالت الأحول الأثعل المشؤوم طائره أبو حذيفة شر الناس في الدين أما شكرت أبا رباك من صغر حتى شببت شبابا غير محجون وحدث أن قتل الثلاثة على يد حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنهم جميعا وها هو ذا أبو حذيفة رضي الله عنه ينظر إلى أبيه وأخيه وعمه وهم مجندلون في دمائهم وقد ختم لهم بخاتمة السوء وماتوا وهم كافرون وعلى الرغم من إيمانه الراسخ وولائه الظاهر وموقفه الواضح إلا أن ملامح وجهه قد تغيرت ونفسه قد تعكَرت فإنه بشر يعتريه ما يعترى البشر من حب الخير لأهله وحزنه عليهم إن فاتهم ذلك ولقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه رأى آدم عليه السلام في السماء وعلى يمينه أسودة وعلى يساره أسودة إذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل يساره بكى فقال مرحبا بالنبي الصالح والإبن الصالح قلت لجبريل من هذا قال هذا ابوك آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله هم بنيه فالأسودة عن يمينه هم أهل اليمين أهل الجنة والأسودة عن شماله هم أهل الشمال أهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر عن شماله بكى فلا غرابة إذن في تعكر نفس الصحابي الجليل أبي حذيفة رضي الله عنه عند رؤيته مشهد قتل أبيه وأخيه وعمه وهم على الشرك أَعداءا لله ورسوله فإن الإسلام ما جاء ليميت المشاعر أو يجمدها بل جاء ليهذبها ويجعلها تسير في مسارها الصحيح وقد أحاط الصمت أبا حذيفة رضي الله عنه وفجأة بلغت مسامعه كلمات لامست مشاعره المتوترة فجعلته يخرج غاضبا عن صمته بل عن شعوره كله ويتفوه بكلمات ظل يندم طوال ما بقي من عمره عليها وكان كلما تذكرها حزن حزنا شديدا ويقول في نفسه إنه لا يكفر تلك الكلمات سوى الشهادة في سبيل الله .
وكان ما حدث هو أنه لما إشتعلت نيران المعركة وحمي وطيسها قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين من لقي منكم العباس بن عبد المطلب فليكفف عنه فإنه خرج مستكرها فقال أبو حذيفة أنقتل آباءنا وإخواننا وعشائرنا وندع العباس والله لأضربنه بالسيف إن لقيته ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أراد محاباة العباس لأنه عمه فإنه لم ينه عن قتل العباس وحده بل نهى عن قتل أى أحد من بني هاشم في المعركة وذلك لعدة أسباب منها أنهم خرجوا مستكرهين كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وفارق كبير بين من مخرج مكرها ومن خرج محاربا المسلمين ويستهدف قتلهم والقضاء عليهم وإقتحام مدينتهم ومنها عرفان النبي صلى الله عليه وسلم بمواقفهم النبيلة معه وهو رسول الإسلام فقد منعوه من قريش وأحاطوه وهم ليسوا على دينه ودخلوا معه شعب أبي طالب لما حوصر فيه المسلمون لثلاث سنوات حتى أكلوا معه ورق الشجر من قلة الطعام وشدة الجوع وبلغ بالمرأة من نسائهم أنها كانت لا تجد في ثديها لبنا لرضيعها وحتى مات بعضهم بعد الخروج من الحصار من شدة ما لاقى فيه مثل أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأبي طالب بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أيضا عن قتل أبي البخترى بن هشام وهو ليس من بني هاشم ولكن عرفانا بموقفه في نقض الصحيفة الظالمة التي كتبتها قريش وعلقتها في جوف الكعبة المشرفة تحرض فيها على مقاطعة بني هاشم حتى يسلموهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ولم ينس النبي صلى الله عليه وسلم مواقف المطعم بن عدى النبيلة معه وهو ليس من بني هاشم فلما وقع مشركو قريش في الأسر يوم بدر قال صلى الله عليه وسلم لو كان المطعم بن عدى حيا ثم كلمني في أمر هؤلاء الأسرى لأطلقت سراحهم وتركتهم له فقد كان صلى الله عليه وسلم لا ينسى أبدا صاحب الفضل وإن كان كافرا فمن هذا المنطلق كان نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل هؤلاء ولقد تفهم النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبي حذيفة رضي الله عنه وراعى ما كان فيه من الألم النفسي فغفر له ما قاله وقدر أنه بشر خيمت عليه سحائب الحزن حين رأى خاتمة السوء التي ختمت لأبيه وأخيه وعمه فتوترت مشاعره فقال ما قال في ثورة من الحمية وجموح للعاطفة وليس إعتراضا والعياذ بالله على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسحب جثث قتلى المشركين بعد إنتهاء المعركة لكي يتم إلقائهم في البئر التي أعدت لهم وسميت بالقليب عرف في وجه الصحابي الجليل أبي حذيفة رضي الله عنه الكراهية وهو يرى جثث أبيه وأخيه وعمه تسحب وتلقى في القليب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا حذيفة والله لكأنه ساءك ما كان في أبيك فال والله يا رسول الله ما شككت في الله وفي رسول الله ولكن إن أبي كان حليما سديدا ذا رأى فكنت أرجو أن لا يموت حتى يهديه الله عز وجل إلى الإسلام فلما رأيت أن قد فاته ذلك ووقع حيث وقع أحزنني أشد الحزن ذلك فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وعاد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون تغمرهم فرحة النصـر ومن بينهم الصحابي الجليل أبو حذيفة رضي الله عنه ولكن ظلت الكلمة التي قالها يوم بدر شبحا مخيفا يتراءى له أمام عينيه من الحين للآخر يقلق طمأنينته ويلقي به في بحار الندم والأسف الشديدين فكان كلما تذكر تلك الكلمة يقول ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي فلتها ولاأزال خائفا حتى يكفرها الله عني بالشهادة في سبيله .
وبعد بدر شهد الصحابي الجليل أبو حذيفة بن عتبة رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة أحد في شهر شوال عام 3 هجرية وغزوة الخندق في شهر شوال عام 5 هجرية وفي أواخر العام المذكور نزلت سورة الأحزاب والتي حرم بموجبها التبني في الإسلام حيث قال الله تعالى مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وكما أسلفنا أصبح سالم الذى كان يسمى بسالم بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة يسمي بسالم مولى أبي حذيفة حيث لم يكن معلوم إسم أبيه فجاءت السيدة سهلة بنت السهيل بن عمرو رضي الله عنها للرسول صلى الله صلى الله عليه وسلم وقالت له إن سالما بلغ ما يبلغ الرجال وعقل ما عقلوا وإنه يدخل علينا وأظن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم أرضعيه تحرمي عليه فكانت تفرغ من لبنها في قصعة فيشربه وفعلت ذلك خمس مرات ثم عادت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت له إني قد أرضعته خمس رضعات فذهب الذي في نفس أبي حذيفة وكان هذا الأمر رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم بصفة خاصة وليس حكما عاما وبعد الخندق لم يتخلف الصحابي الجليل أبو حذيفة رضي الله عنه عن أى من المشاهد التي تلت تلك الغزوة حيث شهد غزوة بني قريظة وبيعة الرضوان وصلح الحديبية في شهر ذى القعدة عام 6 هجرية ثم فتح خيبر في شهر المحرم عام 7 هجرية ثم عمرة القضاء في شهر ذى القعدة عام 7 هجرية ثم شهد يوم فتح مكة في شهر رمضان عام 8 هجرية ثم غزوة حنين في شهر شوال من العام نفسه ثم حصار الطائف في شهر ذى القعدة من نفس العام أيضا ثم غزوة تبوك في شهر رجب عام 9 هجرية ثم حجة الوداع في أواخر العام العاشر الهجرى وهكذا عاش أبو حذيفة رضي الله عنه حياته كلها في سبيل الله بين هجرة ومحنة وجهاد حيث كما رأينا شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم كل مشاهده ولم تفته غزوة معه في سبيل الله حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وتولي الخليفة الراشد الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة وقامت فتنة الردة في جميع أنحاء الجزيرة العربية وظن الكافرون أن الإسلام أصبح لقمة سائغة يمكن إبتلاعها فإرتدت الكثير من أحياء العرب فيما عدا المدينة المنورة ومكة المكرمة والطائف وإشرأب النفاق وجاءت التهديدات إلى دولة الإسلام الناشئة من كل مكان فوقف الخليفة العظيم أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم أجمعين من خلفه في وجه هذه المحنة كصلابة الجبال الراسيات والقمم الشامخات في مهب الريح وكان أبو حذيفة رضي الله عنه من أوائل من إنضم للجيوش التي أخرجها الخليفة أبو بكر رضي الله عنه لقمع الردة حيث كان ضمن جيش خالد بن الوليد رضي الله عنه الذى وجهه الخليفة لقتال بني حنيفة وزعيمهم مسيلمة الكذاب في أرض اليمامة .
وكان مسيلمة الكذاب قد إدعى النبوة وأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد أشركه في الأمر وكان الخليفة قد وجه عكرمة بن أبي جهل لمسيلمة وحذره من الدخول في معركة معه حيث كان الغرض من توجهه إليه هو تثبيته فلا يقدم على معاونة باقي المرتدين لكنه تعجل ودخل في معركة مع مسيلمة ولم يستطع الصمود أمام جيشه فتراجع فوجهه الخليفة إلى اليمن لمواجهة المرتدين هناك وأرسل شرحبيل بن حسنة لتثبيت مسيلمة لكنه أخطا نفس خطأ عكرمة وتراجع في إنتظار وصول خالد بن الوليد بجيشه والذى كان يضم عددا كبيرا من كبار الصحابة والقراء وحفظة القرآن الكريم فلما سمع مسيلمة دنو خالد ضرب عسكره بمنطقة تسمى عقرباء وإستنفر الناس فجعلوا يخرجون إليه حتى بلغوا 40 ألف رجل تبعه أكثرهم من باب العصبية حتى قيل إن بعضهم كان يشهد أن مسيلمة كذاب وأن محمدا رسول الله لكنهم كانوا يقولون كذاب ربيعة أى مسيلمة أحب إلينا من صادق مضر أى النبي صلى الله عليه وسلم وفي الطريق إلى اليمامة إلتقى خالد وجيشه بفرقة من جيش مسيلمة كانت قد خرجت للثأر لبني عامر فأسرهم جميعا وسألهم عن مسيلمة فردوا منكم نبي ومنا نبي فأمر خالد بقتلهم جميعا عدا قائدهم مجاعة بن مرارة لعله يستفيد من خبرته ومكانته في قومه وجعل خالد شرحبيل بن حسنة على المقدمة وعلى الميمنة أبا حذيفة بن عتبة وعلى الميسرة شجاع بن وهب وعلى الخيالة أسامة بن زيد وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة وراية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنهم جميعا والعرب على راياتها فكان بين المسلمين وبين بني حنيفة يوم شديد الهول ثبت فيه بنو حنيفة وقاتلوا عن أنفسهم وأحسابهم قتالا شديدا حتى إنكشف المسلمون وكادوا أن يهزموا لولا رجال من ذوى الدين والحمية الذين ثبتوا وصرخوا في الناس يا أصحاب سورة البقرة يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال وقال سالم مولى أبي حذيفة بئس حامل القرآن أنا إذا لم أثبت وأمرهم خالد رضي الله عنه بأن يمتازوا حتى يعلم من أين يؤتوا فأثارت هذه الصيحات روح الإستشهاد في نفوس المسلمين وحمل أبو حذيفة بمن معه على جيش المشركين وأصيب عند ذلك بجراح شديدة فسقط ودماؤه الطاهرة تسيل على أرض اليمامة من أجل إعلاء كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله فرأه مولاه وحبيبه سالم وهو يسقط على الأرض فإنطلق نحوه فلما وصل إليه وجده قد خرجت روحه ليلحق بركب الشهداء في الجنة وقاتل هو الآخر يومها أشد القتال إلى أن قتل شهيدا وسقط إلى جنب رفيق حياته أبي حذيفة فوجدوهما بعد إنتهاء المعركة ورأس أحدهما عند رجلي الآخر فقد جمع بينهما الموت كما كانت تجمع بينهما الحياة ليلتقيا إن شاء الله في جنات النعيم إخوة على سرر متقابلين وحمل جيش المسلمين على جيش مسيلمة حملة إستطاعوا بها أن يزحزحوه عن موقفهم الأول ثم شد المسلمون حتى فر بنو حنيفة إلى الحديقة التي تسمى حديقة الرحمن وكانت منيعة الجدران فتحصنوا بها إلا أن المسلمين إستطاعوا أن يقتحموها بمعونة الصحابي البراء بن مالك رضي الله عنه الذى رفعوه فوق سور الحديقة ونزل إلى بابها ففتحه ودخل المسلمون وهم يكبرون وقتل فيها مسيلمة وكان قاتله هو وحشي بن حرب قاتل أسد الله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه الذى رماه بحربته وفي نفس الوقت كان الصحابي الجليل أبو دجانة الأنصارى يهوى عليه بسيفه وقد سميت هذه الحديقة بعد ذلك بحديقة الموت وكانت المعركة التي دارت بها معركة فاصلة ففيها إنتصر المسلمون إنتصارا ساحقا وهزم أعداؤهم بعد معركة من أعنف المعارك قتل فيها مسيلمة الكذاب وعدد 21 ألف من قومه وبلغ عدد شهداء المسلمين يومذاك 1200 شهيد منهم غير الصحابي أبي حذيفة ومولاه سالم الصحابة زيد بن الخطاب وعباد بن بشر وأبو دجانة والطفيل بن عمرو وغيرهم كثير من كبار الصحابة وحفظة وقراء القرآن الكريم رضي الله عنهم جميعا رحمهم الله رحمة واسعة وغفر لهم وأسكنهم فسيح جناته مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
وكانت معركة اليمامة هي آخر حروب الردة في شبه الجزيرة العربية وبلا شك فقد مثلت حركة الردة وما ترتب عليها من حروب حدثا كبيرا ترك أثرا على أوضاع المسلمين والعرب بصفة عامة حيث أن تلك الحركة وتلك الحروب كانت قد شملت كافة أنحاء شبه الجزيرة العربية كرقعة جغرافية وبلا شك أن حركة الردة كانت تعد محنة مر بها الإسلام ولكن كما يقال فإن المنحة تأتي من قلب المحنة حيث أتاحت تلك الحركة وما ترتب عليها من حروب تحقيق الوحدة السياسية في شبه الجزيرة العربية تحت قيادة الخليفة أبي بكر الصديق وذلك بعد أن تحققت الوحدة الدينية وأدرك الجميع أن أية محاولة للتمرد على دين الإِسلام سواء قام بها فرد أم جماعةٌ أم دولةٌ إِنما هي محاولةٌ يائسةٌ مآلها الإِخفاق والفشل الذريع لأن التمرد إِنما هو تمرد على أمر الله المتمثل بكتابه العزيز الذى تكفل بحفظه وحفظ الجماعة التي تلتف حوله وتقيمه في نفوسها ومن ثم تم تعبئة كل طاقات العرب وحشدها للأعمال العسكرية التي تلت حروب الردة وهي الفتوحات في العراق والشام كما كانت حروب الردة تعد أول تدريب عسكرى عملي على الأرض لكافة العرب المسلمين في شبه الجزيرة العربية على مستوى الجيوش الكبيرة بداية من الحشد والتعبئة العامة إلى التحركات والسير والإلتحام إلى أعمال الدوريات والحصار والإستخبارات والتدابير اللوجستية وعليه فقد كانت هذه الحروب بمثابة جسر عبر المسلمون العرب عليه إلى خارج شبه الجزيرة العربية بهدف الفتح كما بينت حروب الردة أن إمبراطوريتي الفرس والروم كانتا وراء العديد من حركات الردة بالدعم الفني والخططي بعد أن تبين لهما بروز دولة الإسلام الفتية التي تزداد قوتها تدريجيا بما يمثل تهديد لهما وفضلا عن ذلك فقد كانت حروب الردة فرصة مواتية لبروز قيادات عسكرية إكتسبت خبرة في ميادين القتال وتدرجت من قيادة عمليات صغيرة محدودة الإمكانات والأعداد إلى قيادة عمليات على نطاق أوسع وكان من بين هذه القيادات خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وسعد بن أبي وقاص والقعقاع بن عمرو التميمي وأخاه عاصم بن عمرو والمثنى بن حارثة الشيباني والنعمان بن مقرن المزني وإخوته وغيرهم كثير ولما بدأت الفتوحات كان التفاهم والتنسيق والتعاون كاملا وعلى أعلى مستوى بين القيادة المركزية في المدينة وبين القيادات الميدانية في ميادين القتال على الرغم من بعد المسافات إِلا أن التوازن الرائع بين دور كل من القيادة المركزية وقيادات ميادين القتال كان واضحا وبارزا وعلاوة على كل ذلك كان من أهم نتائج حروب الردة أنها كانت هي السبب الرئيسي الذى دفع الخليفة أبا بكر الصديق رضي الله عنه لتجميع القرآن الجمع الأول في كتاب واحد بعد مشورة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظرا لإستشهاد العديد من حفظة وقراء القرآن الكريم في تلك الحروب .
|