بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر والمكنى بقريش بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان وهو من نسل نبي الله إسماعيل عليه السلام القرشي السهمي رضي الله عنه وعن أبيه صحابي جليل من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يلنقي معه في الجد السابع لؤى بن كعب وكان يكنى بأبي محمد وهو ينتمي إلى بني سهم والذين كانوا من أكبر بطون قريش وكانوا أعز أهل مكة وأكثرهم عددا وكان فيهم تحجير الأموال وهو تنظيم القربات والنذور التي تهدى إلى الأصنام وكذلك الفصل في الخصومات وكان من أعلامهم غير الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص أبوه الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي اله عنه أحد أشهر القادة العسكريين المسلمين وفاتح بيت المقدس ومصر والذى كان من أدهى دهاة العرب حيث كان يمتلك دهاء واسع وذكاء عظيم وكان واسع الحيلة سريع الفهم والبديهة والتصرف في أى موقف يتعرض له وأطلق عليه عمر بن الخطاب الخليفة الراشد الثاني رضي الله عنه لقب أرطبون العرب حيث كان هناك قائد رومي إشتهر بدهائه وكان في مواجهة مع عمرو بن العاص في فتوحات الشام فقال عمر لقد ألقى إلينا هرقل بأرطبون الروم فألقينا إليه بأرطبون العرب وكان من أعلام بني سهم أيضا هشام بن العاص شقيق عمرو والذى كان من السباقين إلى الإسلام وعبد الله بن حذافة سفير النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى أبرويز ملك الفرس وشقيقاه الصحابيان الجليلان قيس وخنيس إبني حذافة رضي الله عنهما واللذان كانا من السابقين إلى الإسلام وهذا الأخير كان الزوج الأول للسيدة أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما والذى إستشهد بعد غزوة أحد على أثر إصابته في تلك الغزوة فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم إكراما لها ولأبيها عملاق الإسلام الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه فصارت من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعا وأيضا كان من أعلام بني سهم العاص بن وائل أبو الصحابيين الجليلين عمرو وهشام إبني العاص بن وائل وجد الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص والذى كان سيدا لبني سهم ومن أشد أعداء الإسلام ولما علم بإسلام إبنه هشام رضي الله عنه حبسه وكان يعذبه كل يوم ويجلده بالسياط ويمنع عنه الطعام والشراب حتى يرتد عن الإسلام لكنه ثبت حتى واتته الفرصة للهرب ففر من محبسه وهاجر سرا إلى الحبشة وذات يوم سخر العاص بن وائل من النبي صلى الله عليه وسلم فدعا الله أن يسلط عليه شوكة من أشواك الأرض وبالفعل دخلت في قدمه شوكة تسببت في تورم قدمه لدرجة أنه أصبح طريح الفراش وعجز عن الحركة وساءت حالته ومات بعد فترة وجيزة وكان ميلاد الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه في مكة المكرمة وهناك خلاف في عام مولده وفي فارق السن بينه وبين والده وسماه أبوه العاص على إسم جده لكن بعد إسلامه سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله ونشأ في بيت أسرة من أشرف أسر مكة كما أنها كانت أسرة غنية وميسورة الحال يعمل أبناؤها بالتجارة وتعلم عبد الله منذ صغره القراءة والكتابة كما أجاد أيضا اللغة السريانية وبعد بدء الدعوة إلى الإسلام حذر عمرو إبنه وزوجته ريطة بنت منبه والتي كانت من أبناء عمومته من الإستماع إلى ما يقوله شقيقه هشام رضي الله عنه وأتباع الدين الجديد وسألته ريطة ولكن من أين جاء إبن عبد الله بهذا العلم والحكمة والبيان فقال إبنها إن ملكا يدعى جبريل يأتيه به من السماء فقال عمرو له في حدة وغضب إنه محض إفتراء وهل يكلم الله البشر فقال لأبيه كلم الله نبيه موسى عليه السلام تكليما فقال عمرو لا تصدق ما يقوله هؤلاء ولا تخالط أو تجالس أحدا منهم أبدا فقال إبنه لقد أخبرني عمي هشام أن من ذاق حلاوة الإيمان لا يعود إلى الشرك أبدا ولو وضعوا على رقبته السيف فإنتهره أبوه وأعاد طلبه بأن لا يكلم أيا منهم .
وقد تأخر إسلام عمرو بن العاص وزوجته ريطة بنت منبه حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وجاءت غزوة بدر وقتل فيها أبوها وعمها وأخوها فخرجت في غزوة أحد مع زوجها طلبا لثأرهم وبعد الخندق لم يحضر عمرو الحديبية ولا صلحها ولما عادت قريش إلى مكة بعد صلح الحديبية أسلم إبنه العاص في أوائل العام السابع الهجرى وهاجر إلى المدينة المنورة ليبايع الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسلام فسماه الرسول عبد الله وفي مكة جمع عمرو رجالا من قريش كانوا يرون رأيه ويسمعون منه وقال لهم تعلمون والله إني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا وإني قد رأيت أمرا فما ترون فيه فقالوا وماذا رأيت قال رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده فإن ظهر محمد علي قومنا كنا عند النجاشي فإنا نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدى محمد وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير فوافقوه على رأيه وركبوا معه البحر إلى الحبشة فوجدوا النجاشي قد إعتنق الإسلام فكان أن إعتنق عمرو الإسلام أيضا هناك على يد النجاشي بعد ان دار بينهما حوار ونقاش إنتهى بإقتناع عمرو بالإسلام ثم عاد إلى مكة ودخل على زوجته ريطة وعلم أنه أثناء وجوده بالحبشة أسلم إبنه عبد الله وهاجر إلى المدينة المنورة فقالت له ما بالك قال لقد فر إبنك إلى المدينة المنورة وتبع محمدا فقالت وماذا أنت فاعل فقال وقد شرح الله صدره للإسلام أرى أن نلحق بهذا الدين لأن الناس قد دخلوا فيه أفواجا وأعد نفسه وتهيأ ومضى مهاجرا إلى المدينة المنورة فإلتقى في الطريق بخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة رضي الله عنهما وهما يتجهان إلى المدينة ليدخلا في الإسلام فدخل ثلاثتهم المدينة المنورة في شهر صفر عام 8 هجرية معلنين إسلامهم ثم إلتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوى فبايعه أولا خالد بن الوليد وأسلم ثم إقترب عمرو بن العاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي ولا أذكر ما تأخر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عمرو بايع فإن الإسلام يجب ما قبله وإن الهجرة تجب ما كان قبلها وحينها قال الرسول صلى الله عليه وسلم إن مكة قد ألقت إلينا بفلذات أكبادها ومنذ أن أسلم عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما لزم النبي صلى الله عليه وسلم وتعلم منه القرآن الكريم فأتقنه قراءة وحفظا وتلقى عنه الكثير من احكام الإسلام والأحاديث النبوية ونظرا لعلمه باللغة السريانية فقد قرأ الإنجيل والتوراة وإستعان بهما لتفسير قصص القرآن الكريم وذات يوم رأى عبد الله رضي الله عنه رؤيا أنه كأن في أحد أصابعه سمنا وفي إصبع آخر عسلا فإذ هو يلعقهما فلما أصبح قص رؤيته على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له تقرأ الكتابين التوراة والفرقان .
وتلقى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم أيضا الكثير من الأحاديث النبوية والتي إستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في تدوينها حيث قال له يا رسول الله أكتب ما أسمع في الرضا والغضب قال نعم فإني لا أقول إلا حقا وقال أبو هريرة عن ذلك ما كان أحد أكثر حديثا مني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عبد الله بن عمرو بن العاص فإنه كان يكتب وأنا لا أكتب وقد بلغ عدد الأحاديث التي رواها عدد سبعمائة حديث إتفق له الشيخان البخارى ومسلم على سبعة أحاديث وإنفرد البخاري بثمانية ومسلم بعشرين وكان عبد الله رضي الله عنه يدون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في صحيفة خاصة به سماها الصحيفة الصادقة والتي كانت فيما بعد أحد المصادر الرئيسية التي إعتمد عليها علماء وأئمة الحديث في رواية وتحقيق الحديث النبوى الشريف وقد روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة الكرام أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبي الدرداء ومعاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عوف ووالده عمرو بن العاص وسراقة بن مالك وأبي مويهبة مولى النبي محمد صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين وروى عنه عدد كبير من الصحابة والتابعين الكرام منهم أنس بن مالك وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعكرمة مولى إبن عباس وسعيد بن المسيب وأبو أمامة أسعد بن سهل بن حنيف الأنصارى والسائب بن يزيد وعامر الشعبي وأبو الطفيل وعروة بن الزبير بن العوام وطاووس بن كيسان وعطاء بن يسار وأبو زرعة بن عمرو ويوسف بن ماهك ومسروق بن الأجدع وأبو عبد الرحمن البجلي وأبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني ومولاه أبو قابوس ومولاه إسماعيل ومولاه سالم وحفيده شعيب بن محمد وجبير بن نفير وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وشقيقه حميد بن عبد الرحمن بن عوف والحسن البصرى والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وعطاء بن أبي رباح وعبد الله بن صفوان وعيسى بن طلحة بن عبيد الله وإبن أخيه إبراهيم بن محمد بن طلحة وعمرو بن ميمون وعقبة بن أوس وأبو عياش عمرو بن الأسود العنسي وعطاء العامرى وأبو أيوب المراغي وناعم مولى أم سلمة والسائب بن زيد الثقفي ويحيى بن حكيم بن صفوان بن أمية ونافع بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي وأخوه يعقوب رضي الله عنهم أجمعين وكان مما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه فجاءه رجل فقال لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح فقال إذبح ولا حرج فجاءه رجل آخر فقال لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي فقال إرم ولا حرج فما سئل النبي عن شئ قدم ولا آخر إلا قال إفعل ولا حرج وعن عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أيضا قال رجعنا مع رسول اللّٰه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة حتّى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر فتوضأوا وهم عجال فإنتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء فقال رسول اللّٰه صلى الله عليه وسلم ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء وعن عبدِ اللهِ بنِ عمرو بن العاص رضي الله عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس مرجت عهودهم وأماناتهم وإختلفوا فكانوا هكذا وشبك بين أصابعه قال فبم تأمرني قال عليك بما تعرف ودع ما تنكر وعليك بخاصة نفسك وإياك وعوامهم وفي رواية إلزم بيتك وإملك عليك لسانك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر خاصة نفسك ودع أمر الأمة وعن عبد اللّه بن عمرو أن النبي قال أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا إؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وعنه أيضا قال سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار .
وعلاوة على كل ما سبق كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنه مثالا رائعا للفضيلة والإنقطاع للعبادة والنسك وجمع بين العلم والعمل وإشتهر بكثرة الحديث والإجتهاد وصح عنه كثرة صيام النهار وقيام الليل والزهد والعمل من أجل الآخرة حيث عرف عنه أنه في غير أوقات الغزو والجهاد يعيش على الدوام صائم نهاره قائم ليله لا يعرف لسانه حديثا من أحاديث الدنيا مهما يكن حلالا إنما هو رطب دائما بذكر الله تاليا قرآنه أو مسبحا بحمده أو مستغفرا لذنبه وحسبنا إدراكا لأبعاد عبادته ونسكه أن نرى الرسول صلى الله عليه وسلم الذى جاء يدعو الناس الى عبادة الله الواحد الأحد يجد نفسه مضطرا للتدخل لكي يحد من إيغال عبد الله بن عمرو رضي الله عنه في العبادة وهكذا إذا كان أحد وجهي العظة في حياة عبد الله بن عمرو الكشف عما تزخر به النفس الانسانية من قدرة فائقة على بلوغ أقصى درجات التعبد والتجرد والصلاح فإن وجهها الآخر هو حرص الدين على القصد والإعتدال في بلوغ كل تفوق وإكتمال حتى يبقى للنفس حماستها وأشواقها حتى تبقى للجسد عافيته وسلامته وحدث أن تزوج عبد الله بن عمرو رضي الله عنه إمرأة من قريش فجاء أبوه إليها فسألها كيف وجدت بعلك أى زوجك فقالت خير الرجال وهو رجل لم يفتش لنا كنفا والكنف هو الجانب والمعنى أنه لم يقربها ولم يعرف لنا فراشا فأقبل عمرو على إبنه وقال له أنكحتك إمرأة من قريش ذات حسب ونسب فعضلتها وفعلت وفعلت ثم إنطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشكو إبنه إليه فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن عمرو يقضي حياته على وتيرة واحدة وما لم يكن هناك خروج في غزوة فان أيامه كلها تتلخص في أنه من الفجر الى الفجر في عبادة موصولة صيام وصلاة وتلاوة قرآن فإستدعاه النبي إليه وراح يدعوه الى القصد في عبادته حيث قال له الرسول عليه الصلاة والسلام لقد أخبرت أنك تصوم النهار ولا تفطر وتصلي الليل ولا تنام فحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام فقال عبد الله إني أطيق أكثر من ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم له فحسبك ان تصوم من كل جمعة يومين قال عبد الله إني أطيق أكثر من ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل لك إذن في خير الصيام صيام نبي الله داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام يسأله قائلا وعلمت أنك تجمع القرآن في ليلة وإني أخشى أن يطول بك العمر وأن تمل قراءته إقرأه في كل شهر مرة إقرأه في كل عشرة أيام مرة إقرأه في كل ثلاث مرة ثم قال له إني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء وهذه سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني ولقد عمر عبد الله بن عمرو طويلا ولما تقدمت به السن ووهن منه العظم لم يكن يستطيع أن يتنعبد العبادة التي كان يتعبدها وهو في سن الشباب فكان يتذكر دائما نصح الرسول صلى الله عليه وسلم له فيقول يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه حريص كل الحرص على أن يكون من أهل الجنة فقد روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد تعلق نعليه في يده الشمال فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضا فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله رضي الله عنه فقال إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت قال نعم قال أنس وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئا غير أنه إذا تعار وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر قال عبد الله غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله قلت يا عبد الله إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا ثلاث مرار يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت الثلاث مرار فأردت أن آوى إليك لأنظر ما عملك فأقتدى به فلم أرك تعمل كثير عمل فما الذى بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما هو إلا ما رأيت قال فلما وليت دعاني فقال ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه فقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنه هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق وفضلا عن ذلك فقد كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يتصف بالكرم والجود فقد قال سليمان بن ربيعة أنه حج في إمرة معاوية ومعه المنتصر بن الحارث الضبي في عصابة من قراء أهل البصرة فقالوا والله لا نرجع حتى نلقى رجلا من أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم يحدثنا بحديث فلم نزل نسأل حتى علمنا أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه نازل في أسفل مكة فعمدنا إليه فإذا نحن بثقل عظيم يرتحلون ثلاثمائة راحلة منها مائة راحلة ومائتا زاملة أى البعير القوى قلنا لمن هذا الثقل العظيم فقالوا لعبد الله بن عمرو بن العاص فقلنا أكل هذا له وكنا نتحدث أنه من أشد الناس تواضعا فقالوا أما هذه المائة راحلة فلإخوانه يحملهم عليها وأما المائتان فلمن نزل عليه من أهل الأمصار له ولأضيافه فعجبنا من ذلك عجبا شديدا فقالوا لا تعجبوا من هذا فإن عبد الله بن عمرو رجل غني وإنه يرى حقا عليه أن يكثر من الزاد لمن نزل عليه من الناس فقلنا دلونا عليه فقالوا إنه في المسجد الحرام فإنطلقنا نطلبه حتى وجدناه في دبر الكعبة جالسا بين بردين وعمامة وليس عليه قميص قد علق نعليه في شماله وكان عبد الله قد ورث من أبيه قناطير مقنطرة من الذهب فكان من أثرياء الصحابة وكان له بستان عنب بالطائف يسمى الوهط تكلف على عرائشه ألف ألف درهم وكانت أكوام زبيبه أشبه بالتلال ولكن ثروته كانت في خدمة الناس ومعونتهم فقد زاره في أكثر من مناسبة بعض الصالحين الزهاد فهالهم ما رأوا من مظاهر ثرائه وهو المعروف بشدة تواضعه فلما رأوه تبين لهم صدق ذلك وما كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ليفوته أن حب الدنيا كان قد شاع بين الجيل الثاني من المسلمين فأقبلوا عليها وإنغمسوا في ملذاتها وغفلوا عن الآخرة وقربها وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في ذلك لخير أعمله اليوم أحب إلي من ضعفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأننا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تهِمنا الآخرة ولا تهمنا الدنيا وإنا اليوم قد مالت بنا الدنيا ولذلك كان ميالا للمساكين وكان لا يمل من الصدقة عليهم والإحسان إليهم وكان يقول لأن أكون عاشر عشرة مساكين يوم القيامة أحب إلي من أن أكون عاشر عشرة أغنياء فإن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا كان عبد الله رضي الله عنه يتصدق يمينا وشمالا وكان دائما ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث المشهور في إنصاف الضعيف لا تقدس أمةٌ لا يقضى فيها بالحق ويأخذ الضعيف حقه من القوى غير متعتع وذات يوم مر عبد الله بن عمرو رضي الله عنه بمقبرة فلما نظر إليها نزل فصلى ركعتين فقيل له هذا شئٍ لم تكن تصنعه فقال ذكرت أهل القبور وما حيل بينهم وبينه فأحببت أن أتقرب إلى الله عز وجل بهما .
وإلى جانب ورعه وتقواه وعبادته وزهده وكرمه وجوده وتواضعه كان لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه دوره في ميدان الجهاد في سبيل الله فبعد أن أسلم أدرك فتح مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان عام 8 هجرية وغزوة حنين في شهر شوال عام 8 هجرية وحصار الطائف في شهر ذى القعدة من نفس العام وغزوة تبوك في شهر رجب عام 9 هجرية ثم شهد حجة الوداع في أواخر العام العاشر الهجرى وتوفي النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولما تولى الخلافة الخليفة الراشد الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه وبدأت فتوحات بلاد الشام إلتحق الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه بجيش أبيه الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه الذى كان أحد الجيوش الأربعة التي أخرجها الخليفة لفتح بلاد الشام وكان هدفه فلسطين وتراوح عدده بين ستة وسبعة آلاف مقاتل على أن يسلك طريق البحر الأحمر حتى العقبة فوادى القرى فالبحر الميت وصولا إلى بيت المقدس وخرج من المدينة في يوم 3 من شهر المحرم عام 13 هجرية الموافق يوم 10 مارس عام 634م وشارك في معارك أجنادين واليرموك وكانت معه راية أبيه والذى كان قائدا على ميمنة جيش المسلمين يومذاك وشارك بعد ذلك في معركة فحل وفي فتح دمشق ثم في فتح بيت المقدس ثم كانت الخطوة التالية فتح مصر حيث كان في جيش أبيه الذى توجه صوب الديار المصرية في أواخر العام الثامن عشر الهجرى وكان هو من أرسله أبوه إلى المدينة المنورة يطلب مددا من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوامه ثمانية آلاف مقاتل فأرسل الخليفة معه أربعة آلاف مقاتل وعلى رأس كل ألف منها فارس وصفه الخليفة بأنه بألف رجل وكان هؤلاء الأربعة هم الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد رضي الله عنهم جميعا وبعد إن إكتمل فتح مصر وتم تعيين أبيه واليا عليها كان يدير شؤون مصر في غياب أبيه وبعد أن إستقرت الأوضاع في مصر شارك في الفتوحات التي بدأها أبوه في شمال القارة الأفريقية حيث خرج عمرو بقواته من الإسكندرية في عام 22 هجرية متجها نحو ليبيا الحالية وفي البداية أسند عمرو بن العاص رضي الله عنه لأحد قواده وهو عقبة بن نافع مهمة قيادة دورية إستطلاعية لتفقد أحوال منطقة برقة ولدراسة إمكانية فتح الشمال الأفريقي وتأمين الحدود الغربية والجنوبية لمصر ضد هجمات الروم وحلفائهم من قبائل البربر ولكي يوافوه بأخبارها قبل أن يتقدم إليها فسار عقبة إلى زويلة وأطراف برقة وما جاورها من البلاد وتبين له أن قبائل البربر التي تقطن تلك النواحي كانت في سكون شامل وهدوء كامل وأرسل عقبة المعلومات التي حصل عليها إلى قائده عمرو بن العاص الذى قرر مواصلة السير لفتح كامل بلاد إنطابلس التي تعرف اليوم ببرقة ولم يكن الطريق إلى برقة آنذاك صحراويا بل كانت عليه سلسلةٌ من المدائن والمنازل متصلة وأكثره أرض خصبة ذات زرع وكانت الرحلة بمثابة نزهة للمسلمين فلم يصادفوا مقاومةً تذكر وإنضمت إليهم أثناء السير بضعة قبائل بربرية معلنةً ولائها للإسلام والمسلمين ولما بلغت خيل إبن العاص برقة ضربوا الحصار عليها وعرض عليهم عمرو الثلاث خصال التي عرضها على المقوقس وأهل مصر ومن قبلهم الشام وهي الإسلام أو الجزية أو القتال ووجد أهل برقة أنه لا طاقة لهم بقتال المسلمين فقبلوا المصالحة على أن يؤدوا جزية للمسلمين قوامها 13 ألف دينار وأن يبيعوا من أحبوا من أبنائهم في جزيتهم وقيل كذلك دينار عن كل شخص بالغ .
وإستمر عمرو بن العاص مسيره بالجند حتى طرابلس فحاصرها شهرا وعلم المسلمون آنذاك أنّ الجهة البحرية خالية من الدفاعات وغير محصنة وأنهم يستطيعون النفاذ إليها من هناك فرأوا إستغلال حركة الجزر وإنتظار إنحسار الماء عن المدينة من جهة البحر فدخلت جماعة منهم بين أسوار المدينة والبحر وقاتلت الحامية المسؤولة عن الدفاع عن هذه الجهة وصاح أفرادها الله أكبر فترددت أصداء التكبير في أزقة المدينة وطرقاتها فذعر المدافعون عنها ودبت الفوضى في صفوفهم فحملوا ما إستطاعوا من متاعهم وأسرعوا إلى السفن وأبحروا عليها هاربين ولما رأى الحراس فرار الحامية البيزنطية تركوا مراكزهم فدخل عمرو وجيشه إلى المدينة وفي اليوم التالي فاجأ إبن العاص أهل سبرت بخيله وكانوا مستأمنين على منعة طرابلس التي كانت تحول بينهم وبين المسلمين فهاجمها صباحا على حين غرة وذعر السكان وقد ظنوا أن المسلمين لا يزالون يحاصرون طرابلس فإضطروا إلى فتح أبواب المدينة عند أول هجمة إسلامية وإستولي المسلمون على ما فيها لأنها فتحت عنوة ولما تمكن إبن العاص من فتح سبرت كاتب الخليفة عمر بنَ الخطاب يعلمه بالنصر وأن التالي بلاد أفريقية أي تونس وما بعدها ويستأذنه في إفتتاحها فأبى عمر قائلا لا إنها ليست بأفريقية ولكنها المفرقة غادرة مغدور بها لا يغزوها أحد ما بقيت ويروى المؤرخ البلاذرى ما مفاده أن الخليفة لما سمع بأخبار أفريقية وأوضاعها السياسية وتاريخها عرف أنها ليست مأمونة الجانب ولا ميسورة الفتح ولا قريبة الطاعة فعجل بإيقاف عمرو وخلال الفترة ما بين تمام فتح برقة وحصار المسلمين لطرابلس وفتحها كان عمرو بن العاص قد وجه عقبة بن نافع نحو الطريق الداخلي بين برقة وزويلة لإفتتاح الواحات حتى لا تتحول إلى أماكن تجمع للمقاومة البربرية فتقطع طريق العودة على المسلمين فإفتتح أجدابية في طريقه صلحا على أن تؤدي 5 آلاف دينار جزية للمسلمين ثم واصل عقبة حتى بلغ زويلة فصالحه أهلها وصار ما بين برقة وزويلة للمسلمين وبعد أن تم فتح إقليمي طرابلس وفزان شارك عقبة في الحملات التي تلت ذلك لإتمام إخضاع بقية قبائل الصحراء وإدخالها في الإسلام أو العهد وولاه عمرو بن العاص برقة بعد فتحها وعاد إلى مصر لأنه كان يعرف ويدرك مهارته في القيادة وفي المبارزة والقتال وفي أواخر شهر ذى الحجة عام 23 هجرية كانت وفاة الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتولى الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان الخلافة وظل عمرو بن العاص واليا على مصر لفترة بسيطة ثم تم عزله وتعيين عبد الله بن سعد بن أبي السرح واليا عليها .
وكانت االإسكندرية عندما خرجت من سيطرة الروم عمل هؤلاء على تحريض من تبقى منهم بالمدينة على التمرد والخروج على سلطان المسلمين وصادف هذا التحريض رغبة عند بعض سكانها فإستجابوا للدعوة وكتبوا إلى قسطنطين بن هرقل يخبرونه بقلة عدد المسلمين بالمدينة ويصفون له ما يعيش فيه الروم بالإسكندرية من الذل والهوان وفي أثناء ذلك وصل منويل الخصي قائد قوات الروم إلى الإسكندرية ومعه قوات يحملهم في ثلاثمائة مركب مشحونة بالسلاح والعتاد وذلك في عام 25 هجرية ولما علم أهل مصر بأن قوات الروم قد وصلت إلى الإسكندرية كتبوا إلى الخليفة عثمان يطلبون إعادة عمرو بن العاص ليواجههم فإستجاب لطلب المصريين وعين عمرو بن العاص قائدا على جند مصر وإصطحب معه إبنه عبد الله ونهب منويل وجيشه الإسكندرية ومن ثم خرج بجيشه من الإسكندرية يقصد مصر السفلى دون أن يخرج إليهم عمرو أو يقاومهم أحد وتخوف بعض أصحابه أما عمرو فقد رأى أن يتركهم يقصدونه وحدد سياسته هذه بقوله دعهم يسيروا إلي فإنهم يصيبون من مروا به فيخزى بعضهم ببعض وأمعن الروم في إفسادهم ونهبهم وسلبهم وضج المصريون من فعالهم وأخذوا يتطلعون إلى من يخلصهم منهم ووصل منويل إلى نقيوس وهي مدينة مندثرة كان موقعها بمركز الشهداء في محافظة المنوفية حاليا وإستعد عمرو بن العاص للقائه وتقابل الجيشان عند حصن نقيوس على شاطئ نهر النيل وبدأت بشائر النصر تلوح للمسلمين وفي أثناء المعركة أصاب فرس عمرو سهم فقتله فترجل وإنضم إلى صفوف المشاة ورآه المسلمون فأقبلوا على الحرب وخرج المصريون بعد أن رأوا هزيمة الروم يصلحون للمسلمين ما أفسده العدو الهارب من الطرق ويقيمون لهم ما دمره من الجسور وأظهر المصريون فرحتهم بإنتصار المسلمين على العدو الذى إنتهك حرماتهم وإعتدى على أموالهم وممتلكاتهم وقدموا للمسلمين ما ينقصهم من السلاح والمؤونة ولما وصل عمرو بجيشه إلى الإسكندرية ضرب عليهم الحصار ونصب المجانيق على أسوارها والتي تم ضربها وتم السيطرة على الأسوار ودخل المسلمون الإسكندرية وكان منويل في عداد القتلى ولما فرغ المسلمون أمر عمرو ببناء مسجد في المكان الذي أوقف فيه القتال وسماه مسجد الرحمة فرجع إليها من كان قد فر منها وعاد بنيامين بطريرك القبط إلى مدينة الإسكندرية بعد أن فر مع الفارين وأخذ يرجو عمرو ألا يسئ معاملة القبط لأنهم لم ينقضوا عهدهم ولم يتخلوا عن واجبهم ورجاه كذلك ألا يعقد صلحا مع الروم وأن يدفنه إذا مات في كنيسة يحنس وشكر المصريون عمرو على تخليصهم من ظلم الروم وطالبوه بإعادة ما نهب من أموالهم ودوابهم من قبل الروم معلنين ولاءهم وطاعتهم فقالوا إن الروم قد أخذوا دوابنا وأموالنا ولم نخالف نحن عليكم وكنا على الطاعة فطلب منهم عمرو أن يقيموا البينة على ما إدعوا ومن أقام بينة وعرف من له بعينه رده عليه وقام عمرو رضي الله عنه بهدم سور الإسكندرية وأمن شرق وجنوب المدينة وكان قد أمن غربها قبل ذلك بفتح برقة وزويلة وطرابلس الغرب كما أسلفنا في السطور السابقة ولم يعد أمام الروم إلا مهاجمتها من جهة الشمال أى من ناحية البحر المتوسط الأمر الذى تم تأمينه بعد ذلك بإقامة أول أسطول إسلامي بميناء الإسكندرية بعد موافقة الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه .
وبعد زوال خطر الروم أرسل عبد الله بن سعد بن أبي السرح والي مصر آنذاك في عام 26 هجرية إلي الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه سوف يستكمل الفتوحات الإسلامية في بلاد أفريقية فوافقه الخليفة رضي الله عنه وأرسل له مددا يتكون من 10 آلاف فارس وسمي هذا الجيش بجيش العبادلة لكثرة من إسمهم عبد الله فيه مثل عبد الله بن سعد بن أبي السرح وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص كما أمد الخليفة الجيش بألف بعير من عنده لنقل العاجزين وإجتمع القائدان عبد الله بن سعد بن أبي السرح وعقبة بن نافع فقال له عقبة إن المعركة ستكون مع ملك طاغية يبسط نفوذه من طرابلس إلى طنجة والقبائل تظهر له الولاء والطاعة لأنه خلصهم من حكم الروم وإنفصل عن البلاط البيزنطي وإسمه جريجوريوس ونحن لن نقاتل هذه القبائل بل سنذهب إلى مقره الذى يمارس فيه ظلمه وطغيانه والتي يتخذها عاصمة له وهي سبيطلة وهي مدينة حصينة تقع في وسط غرب تونس وتم تجهيز الجيش وإنطلق الجيش إلى العاصمة وكانت أنباء هذا الجيش قد وصلت إلى مسامع جريجوريوس فجمع ضباطه وجنوده وخطب فيهم خطبة حماسية لكي يجعلوا نهاية العرب علي أيديهم في هذه المعركة الفاصلة وأعلن جريجوريوس مكافأة ضخمة وسخية لمن يقتل القائد عبد الله بن سعد بن أبي السرح وهي ألف دينار وأن يزوجه إبنته وسمع عبد الله بن سعد بالمكافأة فضحك ساخرا وأعلن في الجيش الإسلامي أن من يقتل جريجوريوس له ألف دينار ويزوجه إبنة هذا الملك ودارت إشتباكات بين الفريقين لم تسفر عن نتيجة حاسمة وإستبطأ الخليفة عثمان بن عفان النصر فأرسل مددا آخر لهذا الجيش بقيادة عبد الله بن الزبير بن العوام لم يلبث أن وصل وإنضم إلى الجيش الإسلامي وعقد عبد الله بن سعد بن أبي السرح وعبد الله بن الزبير بن العوام إجتماعا لوضع خطة الغزو وقال عبد الله بن الزبير مادام الفارق بيننا وبينهم كبير في العدد والعتاد فيجب أن ندبر حيلة لقهرهم وخاصة أن مدينة سبيطلة ذات أسوار عالية ولا يمكن إقتحامها بسهولة والحيلة هي أن نجهز مجموعة من الفرسان الخبراء المهرة بعيدا عن الإشتباكات حتي إذا إنتهت الإشتباكات عند الظهر وأراد الأعداء أن يعودوا إلى مواقعهم تنقض عليهم هذه المجموعة فتفاجئهم وتبيد بعضهم وتأسر البعض الآخر فوافق القائد عبد الله بن سعد بن أبي السرح على هذه الفكرة وبالفعل بدأت الإشتباكات في اليوم التالي وعندما إنتهت في وقت الظهر كما جرت العادة في الأيام السابقة وعندما تراجع مقاتلو الروم البربر فاجأتهم المجموعة التي تم إختيارها بعناية من أبطال المسلمين وإقتحمت مدينة سبيطلة وقتلت القائد جريجوريوس وأسرت إبنته وإنتهت بذلك أخطر قوة كانت تناوئ المسلمين في هذه البلاد .
وفي عهد الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعندما فتح المسلمون الثغور البحرية أضحت هذه الثغور عرضةً لهجمات البيزنطيين المنطلقين من الجزر القريبة من سواحل بلاد الشام ونظرا لأن الصراع العسكري بين المسلمين والبيزنطيين كان بأحد وجهيه بحريا فقد أدرك معاوية بن أبي سفيان والي الشام آنذاك أهمية بناء أسطول إسلامي بهدف الدفاع عن السواحل الإسلامية ببلاد الشام وغزو الجزر البحرية المواجهة لهذه السواحل إلي جانب الدفاع عن المناطق الداخلية المفتوحة مع إستمرار العلاقات التجارية الخارجية مع دول البحر الأبيض المتوسط وبخاصة أن هذا البحر كان لا يزال آنذاك تحت قبضة البيزنطيين وتنفيذا لهذا المخطط كتب إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطلب منه السماح بركوب البحر وغزو الجزر القريبة من سواحل بلاد الشام لكن الخليفة لم يأذن له إذ كان يكره أن يحمل المسلمين غزاة فيه وهم لم يعهدوا ركوبه وأن أغلب المسلمين لا يجيدون السباحة وكتب إليه بترميم حصون الثغور البحرية وترتيب المقاتلة فيها وإقامة الحرس عليها وإتخاذ الإجراءات والإستحكامات العسكرية اللازمة لحمايتها من غارات البيزنطيين وحدث في أواخر أيام الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأوائل عهد خليفته عثمان بن عفان رضي الله عنه أن نزل البيزنطيون بعض المدن الشامية الساحلية وحاولوا أيضا إسترداد الإسكندرية فأدرك معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنه لا بد من إنشاء أسطول إسلامي للتصدى للخطر البيزنطي وفتح الجزر البحرية التي ينطلق منها العدو وإتخاذها فيما بعد قواعد إنطلاق لغزو العاصمة البيزنطية القسطنطينية وهو الهدف الأسمى للمسلمين ونجح معاوية رضي الله عنه في إقناع الخليفة عثمان بن عفان بركوب البحر وسمح له بغزو قبرص على أن يحمل معه إمرأته فاختة بنت قرظة وولده حتى يعلم أن البحر هين كما صوره له وأمره بعدم إجبار الناس على الركوب معه إلا من إختار الغزو طائعا مختارا بكامل إرادته وفور حصول معاوية رضي الله عنه على موافقة الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه قرر إصلاح المراكب التي كان قد إستولى عليها المسلمون من البيزنطيين وتقريبها إلى ساحل حصن عكا الذي أمر بترميمه كما رمم ثغر صور وكتب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه إلى أهل السواحل بالإستعداد لغزو جزيرة قبرص التي إختارها هدفا عسكريا لنشاط الأسطول الإسلامي بفضل وضعها الجغرافي المتميز آنذاك كقاعدة لغزو القسطنطينية وخرج معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على رأس حملته الأولى على جزيرة قبرص في عام 28 هجرية الموافق عام 649م وتألف الأسطول الإسلامي من مائة وعشرين مركبا بقيادة الصحابي عبد الله بن قيس رضي الله عنه وخرج معه جمع من الصحابة الكرام منهم عبد الله بن عمرو بن العاص وأبو ذر الغفاري وعبادة بن الصامت وزوجته أم حرام بنت ملحان والمقداد بن عمرو وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين وصادف الأسطول الإسلامي وهو في طريقه إلى قبرص بعض المراكب البيزنطية المحملة بالهدايا وقد بعث بها ملك قبرص إلى الإمبراطور البيزنطي قنسطانز الثاني فإستولى المسلمون عليها وعندما وصل الأسطول الإسلامي إلى قبرص رسا على ساحلها وأغار الجنود المسلمون على نواحيها وغنموا الكثير من الغنائم وإضطر ملك قبرص في ظل عجزه عن المقاومة إلى طلب الصلح فصالحه معاوية بن أبي سفيان على أن يؤدى أهل الجزيرة جزيةً سنويةً مقدارها سبعة آلاف دينار كما يؤدون للبيزنطيين مثلها وليس للمسلمين أن يحولوا بينهم وبين ذلك وأن يمتنع المسلمون عن غزو الجزيرة ولا يقاتلون عن أهلها من أرادهم من ورائهم وعلى أن يعلم أهل الجزيرة المسلمين بتحركات البيزنطيين المعادية لهم وأن يعين المسلمون على أهل الجزيرة بطريقا منهم وفي واقع الأمر أن هذه الشروط التي فرضها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على ملك قبرص كانت متواضعة ويبدو أنه رأى أن الظروف الضرورية للإستقرار في الجزيرة لم تتوفر بعد وأن الحملة لم تكن أكثر من حملة إستكشافية وإختبار قوة البحرية الإسلامية الوليدة .
وبعد مقتل الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه في أواخر عام 35 هجرية ووقوع الفتنة والخلاف بين الإمام علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما بخصوص المطالبة بالثار من قتلة الخليفة شهد عبد الله رضي الله عنه وقعة صفين في شهر صفر عام 37 هجرية في جيش معاوية بن أبي سفيان الذى كان قد إنحاز أبوه لصفه وكان على الميمنة بعد أن أمره أبوه بالمشاركة إلا أنه لم يشارك في القتال يومها وقال مالي وصفين مالي وقتال المسلمين لوددت أني مت قبلها بعشرين سنة أما والله على ذلِكَ ما ضربت بسيف ولا رميت بسهم وندم بعد ذلك على وجوده في جيش معاوية وحدث أنه كان عند هذا الأخير إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار بن ياسر رضي الله عنهما كل واحد يقول أنا قتلته يطلب بذلك الجائزة فقال لهما عبد الله ليطب أحدكما به نفسا لصاحبه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تقتله الفئة الباغية بشر قاتل عمار بالنار فلما رأى ذلك معاوية أقبل على عبد الله بن عمرو فقال ما يدعوك إلى هذا قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قولا فأحببت أن أقوله فقال معاوية يا عمرو ألا ترد عنا إبنك فما بالك كنت معنا قال إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي أطع أباك ما دام حيا فأنا معكم ولست أقاتل وفي أوائل عام 41 هجرية إستقل معاوية بالخلافة بعد نزول الإمام الحسن بن علي رضي الله عنهما له عنها وسمي ذلك العام عام الجماعة وذلك لإتفاق جماعة المسلمين وإنتهاء النزاع على أمر الخلافة فولى معاوية رضي الله عنه على الكوفة عبد الله بن عمرو بن العاص فأتاه المغيرة بن شعبة الثقفي ناصحا وقال عمرو بمصر وإبنه بالكوفة فأنت بين فكي الأسد فعزل معاوية حينئذ عبد الله بن عمرو عن الكوفة وولاها المغيرة بن شعبة ولم يدخل عبد الله الكوفة وكان عبد الله بن عمرو قد إستقر بمصر بعد ولاية والده لها عام 38 هجرية وبث فيها علمه وتبع أهلها فتاواه وكان فيها لما توفى والده يوم عيد الفطر من عام 43 هجرية وحضر إحتضاره وقام بتجهيزه ودفنه بالمقطم ثم صلى بالناس العيد وولاه معاوية مصرا بعد وفاة أبيه فوليها حتي عام 47 هجرية وفي عام 60 هجرية توفي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في دمشق وكان قد إستخلف إبنه يزيد وكان والي مصر مسلمة بن مخلد الصحابي الأنصارى فجاء الكتاب بذلك إلى مصر ومسلمة في الإسكندرية وكان قد إستخلف على مصر عابس بن سعيد وأقره يزيد في الكتاب على مصر وطلب منه أخذ البيعة له فندب مسلمة عابسا وكتب إليه من الإسكندرية بذلك فطلب عابس أهل مصر وبايع ليزيد فبايعه الجند والناس إلا عبد الله بن عمرو بن العاص فدعا عابس بالنار ليحرق عليه بابه فحينئذ بايع عبد الله بن عمرو ليزيد على كره منه وعن صفات عبد الله بن عمرو فقد كان رجلا طِوالا عظيم البطن أبيض الرأس واللحية يعتم بعمامة حرقانية ويرخيها شبرا أو أقل من شبر وقد كف بصره في آخر حياته وفي حياته تزوج عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما زوجتين له منهما 4 أولاد و3 بنات منهن إبنته أم عثمان التي تزوجها سلم بن زياد بن أبيه والذى ولاه يزيد على خراسان وسجستان عام 61 هجرية وكان عمره 24 عاما فعبر نهر جيحون مع زوجته فكانت أول إمرأة من العرب قطع بها النهر وولدت هناك ولدا أسموه صغدى على إسم جبل هناك وفتح سلم سمرقند وكان عادلا عاقلا سخيا لم يحب أهل خراسان أميرا قط حبهم له فسمي في السنين التي كان بها بينهم أكثر من 20 ألف مولود بسلم وكان من بنات عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أيضا أم عبد الله التي تزوجها عبد العزيز بن مروان والد الخليفة الأموى الثامن والملقب بالخليفة الراشد الخامس العادل عمر بن عبد العزيز والذى كان ولي عهد الخليفة الأموى الخامس عبد الملك بن مروان وواليه على مصر وذلك إلى أن توفي عام 85 هجرية وأخيرا فقد توفي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما على الأرجح في مصر في يوم 15 من جمادى الآخرة من عام 65 هجرية عن عمر يناهز 72 عاما في عهد الخليفة الأموى الرابع مروان بن الحكم ودفن في داره رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع ألأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وجزاه عنا وعن الإسلام خير الجزاء .
|