بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
وفي أواخر العام العاشر الهجرى شهد المغيرة بن شعبة رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وحينما دفن وخرج علي بن أبي طالب من قبره الشريف ألقى المغيرة خاتمه في القبر عامدا وقال يا أبا الحسن خاتمي فقال على إنزل فخذه يقول المغيرة فمسحت يدى على الكفن فكنت آخر الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم وحين تولى أبو بكر الصديق الخلافة وحدثت فتنة الردة أرسله إلى أهل النجير وهو حصن منيع باليمن لجأ إليه أهل الردة مع الأشعث بن قيس والذى كان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد قبيلة كندة من حضر موت ببلاد اليمن فأسلموا وسألوا أن يبعث عليهم رجلا يعلمهم السنن ويجبي صدقاتهم فأنفذ معهم زياد بن لبيد البياضي عاملا عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم نكص الأشعث عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه ونهاه إبن إمرئ القيس بن عابس فلم ينته فكتب زياد إلى أبي بكر بذلك فكتب أبو بكر إلى المهاجر بن أبي أمية رضي الله عنه وكان على صنعاء بعد أن قمع فتنة الأسود العنسي الذى كان قد إدعى النبوة أن يمد زيادا بنفسه ويعينه على المرتدين بمن عنده من المسلمين ودعمه أبو بكر بالمغيرة بن شعبة فجمع زياد جموعه وأوقع بمخاليفه فنصره الله عليهم حتى تحصن الأشعث ومن معه بحصن النجير فحصرهم فيه ثم تقدم إليه عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه بجيشه فإجتمعوا إلى الأشعث وسألوه أن يأخذ لهم الأمان فأرسل إلى زياد بن لبيد رضي الله عنه يسأله الأمان حتى يلقاه ويخاطبه فأمنه فلما إجتمع به سأله أن يؤمن أهل النجير ويصالحهم فإمتنع عليه ورده وبعد حوارات طويلة وافق زياد أن يؤمن سبعين رجل من أهله ونسى الأشعث أن يطلب تأمين نفسه كما إتفق الأشعث على أن يكون حكم زياد في الباقي نافذا فخرج السبعون الذين أمنهم زياد وأراد قتل الأشعث وقال له أخرجت نفسك من الأمان بتكملة عدد السبعين فسأله أن يحمله إلى أبي بكر ليرى فيه رأيه وفتحوا له حصن النجير وكان فيه كثير فعمد إلى أشرافهم نحو 700 رجل فضرب أعناقهم ولام القوم الأشعث وقالوا لزياد إن الأشعث غدر بنا أخذ الأمان لنفسه وأهله وماله ولم يأخذ لنا وإنما نزل على أن يأخذ لنا جميعا وأبى زياد أن يوارى جثث من قتل وتركهم للسباع وكان هذا أشد على من بقي من القتل وبعث السبي للمدينة وكتب إلى أبي بكر إنا لم نؤمنه إلا على حكمك وبعث الأشعث في وثاق وماله معه ليرى فيه رأيه فأخذ أبو بكر يقرع الأشعث ويقول له فعلت فعلت فقال الأشعث إستبقني لحربك وسأله أن يرد عليه زوجته وقد كان خطب أخت أبي بكر أم فروة بنت أبي قحافة لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه إياها وحقن أبو بكر رضي الله عنه دمه بعد أن أسلم أمامه ورد عليه أهله وقال له إنطلق فليبلغني عنك خير ولما تزوج الأشعث أم فروة إخترط سيفه ودخل سوق الإبل فجعل لا يرى جملا ولا ناقة إلا عرقبه وصاح الناس كفر الأشعث فلما فرغ طرح سيفه وقال إني والله ما كفرت ولكن زوجني هذا الرجل يقصد الخليفة ابا بكر الصديق أخته ولو كان ببلادنا لكانت لنا وليمة غير هذه فيا أهل المدينة إنحروا وكلوا ويا أصحاب الإبل تعالوا خذوا أثمانها فما رؤيت وليمة مثلها .
وبعد ذلك شارك الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة الثقفي رضي الله عنه في معركة اليمامة ضد مسيلمة الكذاب تحت قيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه والتي كانت آخر حروب الردة وبعدها شارك المغيرة رضي الله عنه في فتوحات الشام التي بدأت في عهد الخليفة الراشد الأول أبي بكر الصديق وكان أهم المعارك التي شارك فيها معركة اليرموك في شهر رجب عام 13 هجرية في بداية خلافة الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفقد فيها إحدى عينيه وإنتقل بعد ذلك إلى جبهة العراق وإلتحق بجيش القادسية تحت إمرة الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قائد جيش القادسية وأحد العشرة المبشرين بالجنة وكان المغيرة رضي الله عنه أحد أفراد وفد المسلمين إلى كسرى يزدجرد ملك الفرس بعد أن أرسل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسالة إلى قائد المسلمين سعد رضي الله عنه يطلب منه أن يبعث بوفد إلى يزدجرد قبل المعركة المنتظرة يدعونه إلى الإسلام وإلى إقرار الأمن والسلام في المنطقة فقام بإختيار عدد 14 رجلا ليكونوا الوفد العربي الإسلامي لإمبراطور الفرس فإختار عدد 7 من أهل الرأى والمشورة وعدد 7 من أهل المهابة والقوة الجسدية ورجاحة العقل ويقول المؤرخون إن جميع أعضاء ذلك الوفد كانوا من العمالقة الذين يتجاوز طولهم المترين كان علي رأسهم الصحابي النعمان بن المقرن المزني رضي الله عنه حيث كان هو القائد الأعلى لوفد العمالقة الأربعة عشر وهو أمير قبيلة مزينة البدوية وبطل من أبطال الفتوحات الإسلامية في العراق وفارس وكان فيما بعد أمير أمراء الجيوش الإسلامية المقاتلة في معركة نهاوند المصيرية التي أسقطت دولة الفرس إلي الأبد وكانت في شهر رمضان عام 18 هجرية وكان منهم أيضا المعني بن حارثة الشيباني سيد بني شيبان وعاصم بن عمرو التميمي أحد سادات بني تميم وكان المغيرة رضي الله عنه أيضا هو الرسول الثالث الذى أرسله سعد رضي الله عنه إلى رستم قائد جيش الفرس الذى طلب أن يفد إليه رسول من المسلمين لكي يفاوضه ويتعرف منه على ماذا يريد المسلمون فكان الرسول الأول ربعي بن عامر رضي الله عنه وذلك في اليوم الأول وفي اليوم التالي لما طلب رستم الرسول مرة أخرى كان الرسول هو حذيفة بن محصن البارقي رضي الله عنه وقد أكد كل منهما لرستم عندما سألهما ما جاء بكم فقالا إن الله إبتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه ندعوهم إليه فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضيَ إلى موعود الله قالوا وما موعود الله قال الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن بقي فقال رستم قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظرَ فيه وتنظروا فقال ربعي في اليوم الأول نعم كم أحب إليكم يوما أو يومين قال لا بل شهر حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا فقال ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث فإنظر في أمرك وأمرهم وإختر واحدة من ثلاث بعد الأجل فقال أسيدهم أنت قال لا ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم نؤجلكم ثلاثةَ أيام فإنظر في أمرك وأمرهم وإختر واحدة من ثلاث الإسلام أو الجزية أو المناجزة ثم تركهم وإنصرف وفي اليوم التالي قال له حذيفة نفس الكلام وأن المهلة ثلاثة ايام منذ اليوم السابق .
ولما طلب رستم رسول ثالث كان هذا الرسول هو المغيرة بن شعبة الثقفي رضي الله عنه والذى كان يجيد اللغة الفارسية ولكنه لم يظهر ذلك لرستم ورفاقه فأقبل إليهم وعليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب والبسط الفاخرة على الأرض وفي آخرها سرير رستم المذهب فأقبل المغيرة رضي الله عنه حتى جلس مع رستم قائد الفرس على سريره فوثبوا عليه وأنزلوه ومعكوه فقال لهم قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام ولا أرى قوما أسفه منكم إنا معشر العرب لا نستعبد بعضنا بعضا فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى فكان أحسن من الذى صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض فإن هذا الأمر لا يستقيم فيكم ولا يصنعه أحد وإني لم آتكم ولكن دعوتموني اليوم علمت أنكم مغلبون وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول فقالت السفلة صدق والله العربي وقالت الدهاقين والله لقد رمى بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه قاتل الله أولينا ما كان أحمقهم حين كانوا يصغرون أمر هذه الأمة ثم تكلم رستم فحمد قومه وعظم أمرهم وحقر من شأن العرب وعرض عليه الأموال لينصرف العرب عن بلاد فارس فتكلم المغيرة فحمد الله وأثنى عليه وقال إن الله خالق كل شئ ورازقه فمن صنع شيئا فإنما هو يصنعه وأما الذى ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الظهور على الأعداء والتمكن في البلاد فنحن نعرفه فالله صنعه بكم ووضعه فيكم وهو له دونكم وأما الذى ذكرت فينا من سوء الحال والضيق والإختلاف فنحن نعرفه ولسنا ننكره والله إبتلانا به والدنيا دول ولم يزل أهل الشدائد يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه ولم يزل أهل الرخاء يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم ولو شكرتم ما آتاكم الله لكان شكركم يقصر عما أوتيتم وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال ولو كنا فيما إبتلينا به أهل كفر لكان عظيم ما إبتلينا به مستجلبا من الله رحمةً يرفه بها عنا إن الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولا ثم ذكر له الخيارات الثلاث الإسلام أو الجزية أو القتال وقال له وإن عيالنا قد ذاقوا طعام بلادكم فقالوا لا صبر لنا عنه فقال رستم إذن تموتون دونها فقال المغيرة رضي الله عنه يدخل من قتل منا الجنة ومن قتل منكم النار ويظفر من بقي منا بمن بقي منكم ثم إنصرف المغيرة رضي الله عنه عائدا إلى قائد المسلمين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه . وقامت معركة القادسية بين المسلمين وجيش الفرس بداية من يوم الخميس 13 شعبان عام 15 هجرية وإستمرت حتي يوم الأحد 16 شعبان عام 15 هجرية وإنتهت بإنتصار المسلمين على الفرس وقتل رستم قائد الفرس وعدد من كبار قواده منهم بهمان جازويه قائد قلب الجيش والبيرزان قائد ميسرة القلب والجالينوس قائد ميمنة القلب وكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه من أبرز فرسان المسلمين خلال المعركة وأبلى فيها بلاءا حسنا وزحف جيش المسلمين بعد ذلك نحو كتسفون عاصمة الفرس والتي يسميها المسلمون المدائن وحاصروها لمدة ثلاثة أشهر حتى سقطت في أيديهم في شهر صفر عام 16 هجرية وفي نفس العام كانت معركة جلولاء والتي تقع شمال المدائن وتم فتحها وبعد هزيمة كسرى في القادسية وفتح كتسفون وفتح جلولاء أقام كسرى يزدجرد بمدينة مرو وهي بدولة تركمانستان حاليا بعد خروجه من كتسفون فارا بحياته وكان يتنقل من مدينة إلى أخرى ويعمل على إثارة أهل فارس وجمع كلمتهم للدفاع عن بلادهم وإعادة ما خسروه من بلاد فارس أمام العرب وأثمرت محاولاته في توحيد جهود الفرس وأهل الأهواز في سبيل صد عدوهم المشترك وتم تجهيز جيش فارسي بقيادة الهرمزان أحد قادة الفرس الذين فروا من معركة القادسية وقد أخبر قادة المسلمين في منطقة الأهواز وهي حاليا تقع جنوب غرب إيران وتطل علي الخليج العربي الخليفة عمر بن الخطاب بإجتماع كلمة أتباع كسرى على قتال المسلمين فما كان من الخليفة عمر إلا أن كتب إلى سعد بن أبي وقاص أن إبعث إلى الأهواز جندا كثيفا مع النعمان بن مقرن وعجل ولينزلوا بإزاء الهرمزان ويتحققوا أمره وتحرك النعمان بأهل الكوفة إلى الأهواز على البغال في عام 17 هجرية فلما وصلها بادر إلى مهاجمة جيش الهرمزان في مدينة رام هرمز غربي إيران فهزم الفرس وفتح المدينة ولجأ الهرمزان إلى مدينة تستر القريبة منها فسار النعمان بقوات الكوفة إليه وسارت قوات البصرة إلى تستر أيضا وكان أبو سبرة بن أبي رهم قائدا عاما على الجميع فإستولى عليها بعد حصار دام أكثر من شهر ثم خرج أبو سبرة لمطاردة المنهزمين إلى مدينة السوس وهي تقع جنوبي إيران حاليا ونزل عليها ومعه النعمان بن مقرن وحاصر النعمان السوس ثم إقتحمها عنوة وتم أسر الهرمزان وإرساله أسيرا إلي الخليفة عمر بن الخطاب بالمدينة المنورة مع جماعة من المسلمين كان على رأسهم أنس بن مالك رضي الله عنه فساروا حتى وافوا المدينة حتى إذا دخلوا هيأوا الهرمزان في هيئته فألبسوه كسوته من الديباج الذى فيه الذهب ووضعوا على رأسه تاجا مكللا بالياقوت وعليه حليته فلما رآه عمر وعرف أنه الهرمزان ملك الأهواز رفض أن يكلمه حتى لا يبقى عليه من حليته شئ وكان الترجمان بين الهرمزان وعمر هو الصحابي المغيرة بن شعبة رضي الله عنه إلى أن جاء المترجم فقال له عمر هيه يا هرمزان كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله وما عذرك وحجتك في إنتقاضك مرة بعد مرة فقال الهرمزان كلام حي أو ميت قال عمر كلام حي فقال الهرمزان لقد أمنتني فقال عمر خدعتني والله لا أؤمنك حتى تسلم فلما أيقن الهرمزان أنه القتل أو الإسلام أسلم ففرض له عمر ألفين من العطاء وأنزله المدينة وقد حسن إسلامه كما يذكر الرواة وكان لا يفارق الخليفة عمر الذى كان يستشيره أحياناً في بعض الأمور العسكرية وقام سعد بن أبي وقاص بتعيين النعمان على كسكر وهي تقع بوسط العراق بين الكوفة والبصرة فكره النعمان منصبه الإدارى هذا وكتب إلى عمر يسأله أن يعزله لأنه لا يريد أن يكون موظفا ولا جابيا بل يريد أن يعيش في سبيل الله غازيا وفي ذلك الوقت كان يزدجرد قد إستطاع أن يحشد جيشا فارسيا ضخما في نهاوند بشمال غرب إيران حاليا وجعل الفيرزان قائدا له وبالطبع فقد بلغ ذلك الأمر الخليفة عمر بن الخطاب فقال أشيروا على أيها الناس برجل أوله ذلك الثغر غدا قالوا أنت أفضل رأيا وأحسن مقدرة قال أشيروا علي به وإجعلوه عراقيا قالوا يا أمير المؤمنين أنت أعلم بأهل العراق وجندك قد وفدوا عليك ورأيتهم وكلمتهم فقال أما والله لأولين أمرهم رجلا ليكونن لأول الأسنة إذا لقيها غدا فقيل من يا أمير المؤمنين فقال النعمان بن مقرن المزني فقالوا هو لها وكان النعمان يومئذ بالبصرة ومعه قواد من قادة أهل الكوفة أمده بهم عمر فكتب إليه عمر بالخبر وإني قد وليتك حربهم فسر من وجهك ذلك حتى تأتي مدينة ماه بشمال غرب إيران حاليا فإني قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها فإذا إجتمع لك جنودك فسر إلى الفيرزان ومن تجمع إليه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم وإستنصروا الله وأكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله .
وكان من ضمن من ساروا إلى الفيرزان المغيرة بن شعبة الثقفي رضي الله عنه وأرسل أحد قواد الفرس وإسمه بندار إلى جيش المسلمين أن أرسلوا إلينا رجلا نكلمه فذهب إليهم داهية المسلمين المغيرة بن شعبة الثقفي رضي الله عنه بمنظره الرهيب وشعره المسترسل الطويل الذى يزيده رهبة فلما وصل إليهم إستشار بندار أصحابه بأى هيئة نأذن له هل بشاراتنا وملكنا وفخامتنا حتى نرهبهم بقوة ملكنا أم بالتقشف حتى يزهدوا بنا ولا يطمعوا في ملكنا فأشاروا عليه بل بأفضل ما يكون من الشارة والعدة فتهيأوا له بأفخر الأثاث والثياب ودخل المغيرة فقربوا إلى جسمه ووجهه الحراب والنيازك يلتمع منها البصر وجند بندار حوله كي يزيدوا المنظر رهبة أما بندار فكان على سرير من الذهب وعلى رأسه تاج نفيس فقال المغيرة رضي الله عنه فمضيت فصاروا يدفعونني ويزجرونني فقلت الرسل لا يفعل بهم هذا فقالوا إنما أنت كلب يقول المغيرة فقلت لا أنا أشرف في قومي من هذا في قومه وأشار إلى بندار فإنتهره الجند وقالوا إجلس فجلس فتكلم بندار وترجم للمغيرة رضي الله عنه ومما قاله إنكم معشر العرب أبعد الناس من كل خير وأطول الناس جوعا وأشقى الناس شقاءا وأقذر الناس قذرا وأبعدهم دارا وما منعني أن آمر هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشاب إلا تنجسونا بجيفكم فإنكم أرجاس فإن تذهبوا تركناكم وإن تأتوا نريكم مصارعكم فقال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فحمدت الله وأثنيت عليه ثم قلت والله ما أخطأت من صفتنا شيئا ولا من نعتنا إن كنا لأبعد الناس دارا وأشد الناس جوعا وأشقى الناس شقاءا وأبعد الناس من كل خير حتى بعث الله عز وجل إلينا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فوعدنا النصر في الدنيا والجنة في الآخرة فوالله ما زلنا نتعرف من ربنا منذ جاءنا رسوله الفتح والنصر حتى أتيناكم وإنا والله لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبدا حتى نغلبكم على ما في أيديكم أو نقتل بأرضكم وإني أرى عليكم بزة وهيئة ما أرى مَن خلفي يذهبون حتى يصيبوها ويقول المغيرة فقلت في نفسي لو جمعت ثيابي فوثبت وثبة فقعدت مع هذا العلج بندار على سريره لعله يتطير فوجدت غفلة فوثبت فإذا أنا معه على سريره فصرخ بندار خذوه فأخذه الجند وصاروا يطأونه بأرجلهم فقال المغيرة رضي الله عنه هكذا تفعلون بالرسل فإنا لا نفعل هكذا ولا نفعل برسلكم هذا وشعر بندار أن المغيرة رضي الله عنه بدأ يحطم من معنويات جنده لأنه بدأ يظهر عزته الذى هذبه بها الإسلام وظهرت سوء أخلاقيات الفرس فأراد أن يقطع هذه المناظرة فقال إن شئتم قطعتم إلينا وإن شئتم قطعنا إليكم فعاد المغيرة رضي الله عنه وإستشار قائد الجيش النعمان بن المقرن رضي الله عنه فقال إذن فهي الحرب وإلتقى جيش المسلمين بجيش الفرس في حرب شديدة الوطيس قرب مدينة نهاوند وقيل كان ذلك في شهر رمضان عام 18 هجرية وقيل عام 21 هجرية وظلت المعركة يومين كاملين لم يستطع أحد الجيشين خلالهما أن يحقق النصر على الآخر وفي اليوم الثالث نجح المسلمون في أن يبعدوا الفرس عن مواقعهم ويدخلوهم خنادقهم وحصونهم ويحاصرونهم فيها وطال حصار المسلمين للفرس ففكر قائد المسلمين النعمان بن مقرن المزني رضي الله عنه وجنده في حيلة يخرجون بها الفرس من حصونهم فأشار طليحة بن خويلد الأسدى رضي الله عنه بأن يوهم بعض المسلمين الفرس أنهم قد إنهزموا وينسحبوا من الميدان فينجذب نحوهم الفرس ويتركوا مواقعهم ثم ينقض عليهم الجيش الإسلامي كله مرة واحدة على حين غرة فيهزموهم بإذن الله .
وقام قائد الجيش النعمان بن مقرن بإعادة تنظيم جيشه وكان عدده ثلاثون ألفا وعبأ الكتائب وجعل على مقدمة الجيش شقيقه نعيم بن مقرن وعلى المجنبتين حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن وعلى المجردة أى علي الفرسان القعقاع بن عمرو التميمي وعلى الساقة مجاشع بن مسعود رضي الله عنهم جميعا ونفذ الخطة التي أشار بها طليحة بن خويلد القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنه مع بعض جنود المسلمين ونجحت الحيلة وظن الفرس أن في جيش المسلمين ضعفا فخرجوا وراءهم ليقضوا عليهم فإنقض المسلمون علي جيش الفرس وإندفع النعمان بن مقرن في صفوفهم يقاتل قتالا شديدا طامعا في النصر للمسلمين وفي الشهادة لنفسه ودعا الله قائلا اللهم إني أسألك أن تقر عيني بفتح يكون فيه عز الإسلام وإقبضني إليك شهيدا وبالفعل نال النعمان أمنيته فسقط شهيدا في أرض المعركة بعد أن إنزلق فرسه بسبب الدماء التي غطت أرض المعركة فأصابه سهم في جنبه ولما زلق فرس النعمان به لمحه معقل بن يسار فجاءه بقليل من الماء فغسل عن وجهه التراب فقال النعمان من أنت قال أنا معقل بن يسار قال ما فعل الناس قال فتح الله عليهم فقال النعمان الحمد لله إكتبوا بذلك إلى عمر وكانت هذه هي آخر كلماته وفاضت روحه إلي بارئها وقبل أن تقع الراية من يده أسرع إليه أخوه نعيم وأخذ الراية منه ليواصل المسلمون جهادهم وقال المغيرة إكتموا مصاب أميركم حتى ننتظر ما يصنع الله فينا وفيهم لئلا يهن الناس وبالفعل كتم نعيم خبر إستشهاد القائد ويتولي القيادة الصحابي حذيفة بن اليمان الذى أوصى النعمان بن مقرن له بقيادة الجيش من بعده ولما أظلم الليل وبعد أن إنهزم الفرس هربوا بدون نظام فوقعوا في واد فكان إذا وقع احدهم يقع معه ستة فمات في هذه المعركة 100 ألف أو يزيد حيث قتل في الوادى فقط 80 ألفا وهرب القائد الفارسي الفيرزان وعلم بهربه القعقاع بن عمرو فتبعه هو ونعيم بن مقرن فأدركاه في واد ضيق فيه قافلة كبيرة من بغال وحمير محملة عسلا ذاهبة إلى كسرى فلم يجد طريقا فنزل عن دابته وصعد في الجبل ليختفي فتبعه القعقاع راجلا فقتله وبذلك إنتهت المعركة بنصر كبير أعز الله به الإسلام والمسلمين وفي جو الفرحة تساءل المسلمون عن قائدهم فأجابهم نعيم قائلا هذا أميركم قد أقر الله عينه بالفتح وختم له بالشهادة ووصل خبر الإنتصار في المعركة إلى المدينة المنورة وأيضا وصل معه خبر إستشهاد النعمان فصعد الخليفة عمر بن الخطاب المنبر ينعي للمسلمين ذلك البطل الشهيد ويقول وعيناه تذرفان بالدموع إنا لله وإنا إليه راجعون فبكي المسلمون بالمدينة وهكذا سجل التاريخ يوما من أعظم أيام الإسلام يوم نهاوند اليوم الذى إستشهد فيه أمير نهاوند وقائد المسلمين فيها النعمان بن مقرن وفي نهاوند دفن النعمان في سهل ممتد تكسوه الأشجار ودفن معه من إستشهد في ذلك اليوم الخالد وكان منهم إثنان من أبطال فتوحات بلاد العراق وبلاد فارس هما طليحة بن خويلد الأسدى وعمرو بن معديكرب الزبيدى وكانت هذه المعركة والتي سميت بفتح الفتوح هي النهاية للإمبراطورية الفارسية أو الساسانية فقد سقطت بعد إنتصار المسلمين فيها للأبد وأصبحت في ذمة التاريخ .
ومما يذكر أيضا في سيرة الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة الثقفي أنه ما بين عام 15 هجرية وعام 23 هجرية إستعمله الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه على البحرين أولا فكرهه أهلها فعزله عمر فخافوا أن يرده فقال دهاتهم إن فعلتم ما آمركم لم يرده علينا قالوا فما الأمر قال تجمعون مائة ألف فيأخذها أحدنا إلى عمر فيقول إن المغيرة إختان هذا فدفعه إلي فجمعوا له مائة ألف وأتى عمر فقال ذلك فدعا المغيرة فسأله قال كذب أصلحك الله إنما كانت مائتي ألف قال فما حملك على هذا قال العيال والحاجة فقال عمر للعلج ما تقول قال لا والله لأصدقَنك ما دفع إلي قليلا ولا كثيرا فقال عمر للمغيرة ما أردت إلى هذا قال الخبيث كذب علي فأحببت أن أخزيه وولى عمر المغيرة بعد ذلك البصرة في عام 17 هجرية بعد وفاة عتبة بن غزوان رضي الله عنه فمكث واليا عليها وقائدا على جيشها ثلاث سنوات شارك خلالها في فتوحات بلاد فارس التي تمت خلال هذه الفترة وكان أول من وضع ديوان البصرة وجمع الناس ليعطوا عليه ثم عزل عن البصرة لتهمة لم تثبت عليه وولاه عمر رضي الله عنه بعدها الكوفة فكان الرجل يقول للآخر غضب الله عليك كما غضب أمير المؤمنين على المغيرة عزله عن البصرة وولاه الكوفة وأثناء ولايته على الكوفة وفي عام 23 هجرية في أواخر عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجه المغيرة رضي الله عنه جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه إِلَى همدان بشمال غرب إيران فقاتله أهلها ودافعوا دونها فأصيبت عينه بسهم فقال إحتسبتها عند اللَّه الذى زين بها وجهي ونور لي ما شاء ثم سلبني إياها في سبيله وفي النهاية تم فتحها ودخلها جيش المسلمين وظل المغيرة رضي الله عنه واليا للكوفة حتى قتل عمر في شهر ذى الحجة عام 23 هجرية وإستمر في عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه حينا ثم عزله وبعد مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه وتولي الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخلافة وبعد أن وقعت الفتنة بينه وبين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بسبب الخلاف على الثأر من قتلة عثمان إعتزل المغيرة تلك الفتنة ولقيه عمار بن ياسر رضي الله عنه في المدينة المنورة فقال له هل لك يا مغيرة أن تدخل في هذه الدعوة فتسبق من معك وتدرك من سبقك فقال وددت والله أني علمت ذلك وإني والله ما رأيت عثمان مصيبا ولا رأيت قبله صوابا فهل لك يا أبا اليقظان أن تدخل بيتك وتضع سيفك وأدخل بيتي حتى تنجلي هذه الظلمة ويطلع قمرها فنمشي مبصرين فقال عمار أعوذ بالله أن أعمى بعد إذ كنت بصيرا يدركني من سبقته ويعلمني من علمته فقال المغيرة رضي الله عنه يا أبا اليقظان إذا رأيت السيل فإجتنب جريته وفي عام 40 هجرية حج المغيرة بالناس لما كان معتزلا بالطائف حيث كان الإمام علي بن ابي طالب رضي الله عنه قد قتل ولم يكن هناك أميرا للحج ولما آل الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان في بدايات عام 41 هجرية بعد ان تنازل له الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن الخلافة التي كان قد بايعه عليها أهل العراق والحجاز قدم عليه فإستشاره معاوية رضي الله عنه في أن يولي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه على الكوفة ويستمر أبوه واليا على مصر فقال المغيرة يا أمير المؤمنين تؤمر عبد الله على الكوفة وأباه على مصر وتكون كالقاعد بين فكي الأسد قال ما ترى قال أنا أكفيك الكوفة فولي الكوفة لمعاوية رضي الله عنه حتى وفاته في شهر شعبان عام 50 هجرية عن عمر يناهز السبعبن عاما ودفن بها رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وجزاه عنا وعن الإسلام خير الجزاء .
وعلاوة على مسيرة الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة الثقفي رضي الله عنه في الجهاد في سبيل الله في حروب الردة وفتوحات بلاد الشام والعراق وقيامه بالعديد من المهمات التي كان من الممكن أن يفقد فيها حياته مثل مشاركته في هدم صنم اللات في ثقيف ومقابلته لرستم قائد الفرس قبل معركة القادسية ومقابلته لبندار قائد الفرس أيضا قبل معركة نهاوند وخدمة الإسلام ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم منذ أن أسلم وحتي وفاته رضي الله عنه كان أيضا راوية للحديث النبوى الشريف حيث روى عدة أحاديث عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وروى عنه أولاده عروة وحمزة وعقار أبناء المغيرة بن شعبة الثقفي رضي الله عنه والمسور بن مخرمة ومسروق بن الأجدع وعروة بن الزبير وأبو إدريس الخولاني وعلى بن ربيعة الوالبي وغيرهم وله في صحيح البخارى وصحيح مسلم إثنا عشر حديثا وإنفرد له الإمام البخارى بحديث والإمام مسلم بحديثين وكان مما رواه ما قاله قاضي الكوفة وراوى الحديث الثقة التابعي عبد الملك بن عمير عن وراد كاتب المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال أملى علي المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية أن النبي كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال كسفت الشمس على عهد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يوم مات إبنه إبراهيم فقال الناس كسفت الشمس لموت إبراهيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم فصلوا وإدعوا الله وعن الوليد بن مسلم أخبرنا أبو النضر حدثنا يونس بن ميسرة أنه سمع أبا إدريس قال قدم المغيرة بن شعبة دمشق فسألته فقال وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فغسل يديه ووجهه وغسل ذراعيه ومسح برأسه ثم أهويت إلى الخف فقال دعهما إني أدخلتهما طاهرتين فمسح على خفيه كما كان للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه كلمات ماثورة منها إشكر من أنعم عليك وأنعم على من شكرك فإنه لا بقاء للنعم إذا كفرت ولا زوال لها إذا شكرت وإن الشكر زيادة من النعم وأمان من الفقر وكان من الطرائف التي تم تداولها عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال كنت آتي فأجلس على باب الخليفة عمر بن الخطاب أنتظر الإذن للدخول عليه فقلت ليرفأ حاجبه خذ هذه العمامة فإلبسها فإن عندى أختها فكان يأذن لي أن أقعد من داخل الباب فكان من رآني قال إنه لذو مكانة عند عمر فإنه يدخل على عمر في ساعة لا يدخل عليه فيها غيره .
|