بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
معن بن عدى بن الجد بن العجلان بن ضبيعة بن حارثة بن ضبيعة بن حرام بن جعل بن عمرو بن جشم بن ودم بن ذبيان بن هميم بن ذهل بن هني بن بلي البلوى القضاعي الأنصارى رضي الله عنه كان أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حليفا من حلفاء بني مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك من قبيلة الأوس والذين كانوا يسكنون قباء وقد نزل النبي صلى الله عليه وسلم أولا عند قدومه المدينة المنورة في ديارهم عندما وفد إليها مهاجرا من مكة المكرمة ومكث لديهم أربعة أيام أسس فيها مسجد قباء ثم قدم بعد ذلك إلى المدينة المنورة ونزل بدار الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصارى رضي الله عنه ومما يذكر أن بني عمرو بن عوف بطن من بطون قبيلة الأوس إحدى القبيلتين العربيتين الرئيسيتين الكبيرتين اللتين كانتا تسكنان المدينة المنورة قبل هجرة النبي الكريم محمد صلي الله عليه وسلم إليها وهما الأوس والخزرج وكانت هناك نزاعات وصراعات وحروب طاحنة بين هاتين القبيلتين قبل الإسلام إستمرت 140 عاما وكانت قبائل اليهود التي تسكن المدينة تغذى تلك النزاعات والحروب وتحيك المؤامرات والفتن بما يحقق لهم البقاء والريادة بالمدينة ولم تتوقف تلك الحروب بين القبيلتين إلا قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات وبدخول معظم أبناء القبيلتين في الإسلام إنتهت الصراعات والحروب وساد السلام بين القبيلتين بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة حيث أصلح النبي صلى الله عليه وسلم بين قلوبهم من خلال إستيعاب كلا الفصيلين في المجتمع المسلم ومنع سفك الدماء بين المسلمين وتم تضمين كل من القبيلتين في دستور المدينة بكونهم مسلمين في دولة واحدة ومجتمع واحد وشكلت القبيلتان الأنصار وكان الصحابي معن بن عدى رضي الله عنه في الأساس ينتمي إلى قبيلة بلي وهي قبيلة قضاعية حميرية من القبائل التي إستوطنت شمال وغرب شبه الجزيرة العربية ويعود نسبها إلى بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وقد سكن الكثير من قبيلة بلي المدينة المنورة ولما دخل الإسلام المدينة أسلم الكثير منهم وكان على رأسهم الصحابة معن بن عدى وأخوه الأكبر عاصم بن عدى سيد بني العجلان ورويفع بن ثابت البلوى وهو الذى إستضاف وفد قبيلة بلي عندما وفدت المدينة في شهر ربيع الأول عام 9 هجرية وقدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له هؤلاء قومي فقال له النبي مرحبا بك وبقومك فأسلموا بين يديه وبايعوه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذى هداكم للإسلام فكل من مات منكم على غير الإسلام فهو في النار ومما يذكر أن قبيلة بلي كان لها دور كبير في الفتح الإسلامي لمصر مع الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه قائد جيش المسلمين وإستوطن الكثير منهم في مصر وبلاد السودان أيضا وكان لهم دور كبير في نشر الإسلام واللغة العربية في المناطق التي أقاموا بها وكان ميلاد الصحابي الجليل معن بن عدى على الأرجح بالمدينة المنورة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وهجرته إلى المدينة المنورة وعاش ونشأ بها وكان يجيد القراءة والكتابة فكان رجلا مثقفا منذ الجاهلية حيث كان من يكتب حينئذ في العرب تتجه إليه الأنظار بكل الإهتمام والتقدير وكان إسلامه على الأرجح على يد الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه مبعوث النبي محمد صلى الله عليه وسلم لمن أسلم من أهل المدينة لكي يعلمهم القرآن الكريم وفرائض الإسلام وكان له شرف المشاركة في بيعة العقبة الثانية ضمن الأحد عشر رجلا من قبيلة الأوس الذين كانوا ضمن الثلاثة والسبعين رجلا والإمرأتين الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم فيها على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يقولوا في الله لا يخافون في الله لومة لائم وعلى أن ينصروه ويمنعوه إذا قدم عليهم مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم وتكون لهم الجنة .
وبعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وإستقراره بها آخى بين الصحابيين الجليلين معن بن عدى وزيد بن الخطاب الأخ الأكبر لعمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعا وحرص معن بن عدى رضي الله عنه على مواقف الفداء والوفاء لكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله فلما جاءت غزوة بدر في شهر رمضان عام 2 هجرية شهدها معن بن عدى رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبلى فيها بلاءا حسنا ثم شهد غزوة أحد في شهر شوال عام 3 هجرية وغزوة الخندق أو الأحزاب في شهر شوال عام 5 هجرية وغزوة بني قريظة في شهر ذى القعدة من نفس العام وفي شهر ذى القعدة عام 6 هجرية شهد بيعة الرضوان وصلح الحديبية وفي شهر المحرم عام 7 هجرية شهد غزوة خيبر وفي شهر ذى القعدة من نفس العام شهد عمرة القضاء وفي شهر رمضان عام 8 هجرية شهد فتح مكة وفي الشهر التالي شوال عام 8 هجرية شهد غزوة حنين ثم حصار الطائف في شهر ذى القعدة من نفس العام وقبل الخروج لغزوة تبوك في شهر رجب عام 9 هجرية رأى المنافقون وأعداء الإسلام في المدينة المنورة أن يبنوا مسجدا بجوار مسجد قباء والذى كان بنو عمرو بن عوف قد بنوه لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم عندهم لمدة 4 أيام بعد أن هاجر من مكة وقبل دخوله المدينة وكان يأتيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلي فيه وكانت حجة هؤلاء المنافقين وأعداء الإسلام في بنائه إيواء الضعفاء وذوى الأمراض والعلل بالمدينة وتعود خلفية بناء هذا المسجد إلى أنه كان بالمدينة قبل أن يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم رجل من قبيلة الخزرج إسمه أبو عامر الراهب وكان في الجاهلية نصرانيا وكان قد تعلم من أهل الكتاب وقرأ كتبهم وكان في تلك الفترة يتعبد بعبادتهم وكانت له مكانة عظيمة وشرف رفيع في قومه فلما وفد النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وإجتمع حوله المسلمون من المهاجرين والأنصار وصار للإسلام قوة ومنعة وخاصةً بعد غزوة بدر لم يعجب ذلك أبا عامر وأظهر الحقد والعداء للمسلمين ثم إتجه إلى مكة ليحرض كفارها وساداتها على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ثم وقعت غزوة أحد حيث إمتحن الله المؤمنين وفي بداية المعركة توجه أبو عامر إلى قومه من الأنصار ممن كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فخاطبهم وحرضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإستمالهم للوقوف في صفه وموافقته على ما عزم عليه من عداء للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلما رأوا منه ذلك العداء للنبي شتموه وسبوه ولما إنتهت غزوة أحد وإزداد شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانته توجه أبو عامر إلى هرقل ملك الروم وطلب منه أن ينصره ويعينه على عداء النبي صلى الله عليه وسلم فوعده هرقل بأنه سينصره ومناه بذلك وأقام عنده فترة وأخبر المنافقين في المدينة أنّه سيأتيهم بجيش لقتال النبي صلى الله عليه وسلم ليكسر شوكته ويغلبه وأمرهم أن يجعلوا لهم مكانا يجتمعون فيه ويكون لهم معقلا ومرصدا فرأوا أن يبنوا مسجدا بجوار مسجد قباء وقام ببنائه بالفعل عدد 12 شخصا من المنافقين وطلبوا من النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يأتيهم للصلاة فيه لكي تكتب له الشرعية بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه وبذلك يجعلوا له أساسا بين المسلمين وقالوا للنبي بنينا مسجدا لذى العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة فقال الرسول صلى الله عليه وسلم إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه إلا أن الله سبحانه وتعالى عصم نبيه صلى الله عليه وسلم من الصلاة في ذلك المسجد حيث خرج النبي صلى الله عليه وسلم آنذاك من المدينة إلى تبوك وفي طريق عودته إلى المدينة المنورة نزل عليه الوحي يخبره بنية بناء مسجدهم ذاك وقصدهم حيث قال الله تعالى في سورة التوبة وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ومن ثم إختار رسول الله صلى الله عليه وسلم مجموعة من الصحابة هم مالك بن الدخشم ومعن بن عدى وشقيقه عاصم بن عدى وعامر بن السكن ووحشي بن حرب رضي الله عنهم جميعا وأمرهم بالتوجه إلى ذلك المسجد وهدمه وإحراقه والذى وصفه القرآن الكريم بأنه مسجد ضرار بمعنى أن الهدف من بنائه كان التفريق بين جماعة المؤمنين وإلحاق الضرر بهم فإنطلق الرجال على الفور تنفيذا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم رضي الله عنه فقال مالك لمعن أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه وأنجزوا المهمة المطلوبة منهم على خير وجه حرصا على كلمة الإسلام ووحدة المسلمين ومنعا من إنتشار الفتنة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل مكانه مقلبا للقمامة يلقى فيه الجيف والقمامة .
وكانت آخر المشاهد التي شهدها الصحابي الجليل معن بن عدى مع النبي صلى الله عليه وسلم هي حجة الوداع في أواخر شهر ذى الحجة عام 10 هجرية وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الإثنين 12 من شهر ربيع الأول عام 11 هجرية وهو عنه راض وفي هذا اليوم المشهود الذى غلب فيه الحزن على المدينة المنورة وعلى العالم بأسره فقد روى كل من عروة بن الزبير وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن الناس بكوا على النبي محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم وقالوا يا ليتنا متنا قبله نخشى أن نفتتن بعده فقال معن رضي الله عنه لكني والله ما أحب أني مت قبله حتى أصدقه ميتا كما صدقته حيا وحدث أن إجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة وجاءوا بسعد بن عبادة سيد الخزرج وكان مريض بالحمى ليبايعوه بالخلافة وطلبوا إليه أن يخطب فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه يا معشر الأنصار لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب إن محمدا عليه وعلى آله السلام لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان فما آمن به من قومه إلا رجال قليل ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يعزوا دينه ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيما عموا به حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة فرزقكم الإيمان به وبرسوله والمنعة له ولأصحابه والإعزاز له ولدينه والجهاد لأعدائه فكنتم أشد الناس على عدوه حتى إستقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها وأعطى البعيد المقادة صاغرا داخرا حتى أثخن الله عز وجل لرسوله بكم الأرض ودانت بأسيافكم له العرب وتوفاه الله وهو عنكم راض إلا أن قوما إستبدوا بالأمر دون الناس فإنه لكم دونهم ومن خلال هذه الخطبة لسعد بن عبادة نتبين أنه كان يرى أن الأنصار أحق بالولاية للأسباب التي ذكرها مع أن المهاجرين لم يكونوا قد إجتمعوا ولم يتشاوروا في أمر الخلافة ولم يقرروا شيئا ولا شك في أن هذه الخطبة حازت إستحسان الأنصار ولا سيما الخزرج فأجابوا بأجمعهم أن قد وفقت في الرأى وأصبت في القول ولن نعدو ما رأيت نوليك هذا الأمر فإنك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضا ولما بلغ عمر بن الخطاب ما كان من خطبة سعد وما وقع من خلاف بين الأنصار الذين أثاروا هذا الموضوع وبين المهاجرين جاء إلى منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسل إلى أبي بكر رضي الله عنه لكي يخرج إليه فأرسل إليه إني مشتغل فأرسل إليه أنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره فخرج فأعلمه الخبر فمضيا مسرعين إلى السقيفة ومعهما أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم جميعا وبينما هم في الطريق لقوا رجلين من الأنصار هما معن بن عدى وعويم بن ساعدة وكانا في طريقهما إليهم عندما رأيا بعض التعدد في الآراء في إختيار الخليفة فأخبروهم بما حدث في السقيفة من إجتماع الأنصار على سعد بن عبادة وجعل معن يقول لأبي بكر مع صاحبه عويم إن هذا الأمر باب فتنة نرجو أن يغلقه الله بك فأسرعوا إلى السقيفة وأراد عمر أن يبدأ بالكلام فأسكته أبو بكر قائلا رويدا حتى أتكلم ثم تكلم بكل ما أراد أن يقول عمر وبدأ أبو بكر رضي الله عنه كلمته فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا إلى خلقه وشهيدا على أمته ليعبدوا الله ويوحدوه وهم يعبدون من دونه آلهة شتى ويزعمون أنها لهم عنده شافعة ولهم نافعة وإنما هي من حجر منحوت وخشب منجور ثم قرأ من سورة يونس ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله وقال أيضا في سورة الزمر وقالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والإيمان به والمواساة له والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم وتكذيبهم إياهم وكل الناس لهم مخالف فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم وإجماع قومهم عليهم فهم أول من عبد الله في الأرض وآمن بالله والرسول محمد صلى الله عليه وسلم وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من عبيده ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم أنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام رضا الله بكم أنصارا لدينه ولرسوله صلى الله عليه وسلم وجعل إليكم هجرته وفيكم جلة أزواجه وأصحابه فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم فنحن الأمراء وأنتم الوزراء لا تفتانون بمشورة ولا تقضى دونكم الأمور .
وكان من الطبيعي أن يحتج المهاجرون على كلام سيد الخزرج سعد بن عبادة فكان ما قاله أبو بكر ولما سمع الأنصار كلام أبي بكر قالوا منا أمير ومنكم أمير ولن نرضى بدون هذا أبدا فقال سعد بن عبادة هذا أول الوهن فقال عمر بن الخطاب هيهات لا يجتمع إثنان في قرن ووالله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمرهم فيهم ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة وهنا قال أبو عبيدة بن الجراح يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر وآزر فلا تكونوا أول من غير وبدل وعندئذ قام بشير بن سعد الأنصارى رضي الله عنه وفال يا معشر الأنصار إنا والله كنا أولى فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك ألا إن محمدا صلى الله عليه وسلم من قريش وقومه به أحق وأولى وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا فإتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم وطال الحوار وإحتدمت المناقشة فكان موقف سيد الأوس أسيد بن حضير رضي الله عنه فعالا في حسم الموقف وكانت كلماته كفلق الصبح في تحديد الإتجاه وحسم الأمر فقد وقف خطيبا وقال تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين فخليفته إذن ينبغي أن يكون من المهاجرين ولقد كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته بعد مماته وأراد أبو يكر رضي الله عنه بحكمته أن يضع حدا لهذا الخلاف خشية إستحكامه فرشح للخلافة إثنين من المهاجرين قائلا هذا عمر وهذا أبو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوا فقالا لا لا نتولى هذا الأمر عليك أبدا فإنك أفضل المهاجرين وثاني إثنين إذ هما في الغار وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة والصلاة أفضل دين المسلمين فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك أبسط يدك نبايعك فلما ذهبا ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه فكان بذلك أول من بايع أبا بكر وتبعه عمر علما منه بمكانته وإعترافا بفضله ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد وعمر وما تدعو إليه قريش وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن حضير قوموا إلى أبي بكر فبايعوه ثم أقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب وأقبلت قبيلة أسلم بجماعاتها حتى تضايقت بهم السكك فبايعوا فكان عمر يقول ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر وهكذا تم حسم الأمر وتوحيد كلمة المسلمين سواء المهاجرين أو الأنصار على خليفة واحد إرتضوه جميعا وإلتفوا حوله من أجل نصرة الإسلام في وقت حرج للغاية مطلوب فيه التوحد لا الفرقة .
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وتولي أبي الصديق الخلافة ظن الكافرون أن الإسلام أصبح لقمة سائغة يمكن إبتلاعها فإرتدت الكثير من أحياء العرب فيما عدا المدينة المنورة ومكة المكرمة والطائف وإشرأب النفاق وجاءت التهديدات إلى دولة الإسلام الناشئة من كل مكان فوقف الخليفة العظيم أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم أجمعين من خلفه في وجه هذه المحنة كصلابة الجبال الراسيات والقمم الشامخات في مهب الريح العاتية وكان الصحابي الجليل معن بن عدى رضي الله عنه من أوائل من إنضم للجيوش التي أخرجها الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه لقمع الردة فإنضم لجيش خالد بن الوليد رضي الله عنه الذى وجهه الخليفة أولا لقتال طليحة بن خويلد الأسدى في البزاخة ثم لقتال مالك بن نويرة في البطاح ثم لقتال بني حنيفة وزعيمهم مسيلمة الكذاب وكان الخليفة قد وجه في البداية عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه لمسيلمة وحذره من الدخول في معركة معه حيث كان الغرض من توجهه إليه هو تثبيته فلا يقدم على معاونة باقي المرتدين لكنه تعجل ودخل في معركة مع مسيلمة ولم يستطع الصمود أمام جيشه فتراجع فوجهه الخليفة إلى اليمن لمواجهة المرتدين هناك وأرسل شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه لتثبيت مسيلمة لكنه أخطا نفس خطأ عكرمة وتراجع في إنتظار وصول جيش خالد بن الوليد رضي الله عنه بجيشه والذى كان يضم عددا كبيرا من كبار الصحابة والقراء وحفظة القرآن الكريم ولما سمع مسيلمة دنو خالد ضرب عسكره بمنطقة تسمى عقرباء وإستنفر الناس فجعلوا يخرجون إليه حتى بلغ عددهم أربعون ألف رجل تبعه أكثرهم من باب العصبية حتى قيل إن بعضهم كان يشهد أن مسيلمة كذاب وأن محمدا رسول الله لكنهم كانوا يقولون كذاب ربيعة أى مسيلمة أحب إلينا من صادق مضر أى النبي صلى الله عليه وسلم وفي الطريق إلى اليمامة إلتقى خالد وجيشه بفرقة من جيش مسيلمة الكذاب كانت قد خرجت للثأر لبني عامر فأسرهم جميعا وسألهم عن مسيلمة فردوا منكم نبي ومنا نبي فأمر خالد بقتلهم جميعا عدا قائدهم مجاعة بن مرارة لعله يستفيد من خبرته ومكانته في قومه وجعل خالد معن بن عدى طليعة له على رأس مائتي فارس وشرحبيل بن حسنة على المقدمة وعلى الميمنة أبا حذيفة بن عتبة وعلى الميسرة شجاع بن وهب وعلى الخيالة أسامة بن زيد وكانت راية المهاجرين مع زيد بن الخطاب الذى كان قد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين معن بن عدى وكانت راية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنهم جميعا والعرب على راياتها فكان بين المسلمين وبين بني حنيفة يوم شديد الهول ثبت فيه بنو حنيفة وقاتلوا عن أنفسهم وأحسابهم قتالا شديدا حتى إنكشف المسلمون وكادوا أن يهزموا لولا رجال من ذوى الدين والحمية الذين ثبتوا وصرخوا في الناس يا أصحاب سورة البقرة يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال وقال سالم مولى أبي حذيفة بئس حامل القرآن أنا إذا لم أثبت وأمرهم خالد رضي الله عنه بأن يمتازوا حتى يعلم من أين يؤتوا فأثارت هذه الصيحات روح الإستشهاد في نفوس المسلمين وكما أسلفنا كان الصحابي زيد بن الخطاب رضي الله عنه يحمل راية المسلمين فلما إنكشف المسلمون أخذ يصيح بأعلى صوته اللهم إني اعتذر إليك من فرار أصحابي وأبرأ إليك مما جاء به مسيلمة ووزيره محكم بن الطفيل وجعل يشد بالراية يتقدم بها في نحر العدو وتقدم معن بن عدى معه ومعهما أبطال الإسلام وكان هدف الجميع وضع حد نهائي لهذه الفتنة مهما كان الثمن وهتف معن بالمسلمين ليثبتوا ويتقدموا وأخيرا يمسك زيد بخناق أحد قواد بني حنيفة وهو الرجال ين عنفوة ويطوح بسيفه رأسه المملوء غرورا وكذبا وخسة وبسقوطه أخذ عالم أكذوبة إدعاء مسيلمة النبوة يتساقط فدب الرعب في نفس مسيلمة الكذاب وفي روع المحكم بن الطفيل ثم في جيش مسيلمة الذى طار مقتل الرجال فيه كالنار في يوم عاصف فقد كان مسيلمة يعدهم بالنصر المحتوم وبأنه هو والرجال بن عنفوة والمحكم بن طفيل سيقومون غداة النصر بنشر دينهم وبناء دولتهم وهاهو ذا الرجال قد سقط صريعا إذن فنبوة مسيلمة وإدعاءته كلها كاذبة وهكذا حطمت ضربة الصحابي زيد بن الخطاب رضي الله عنه كل أوهام وخرافات مسيلمة الكذاب وأنصاره .
وما كاد خبر مقتل الرجال عدو الله يذيع بين جتد المسلمين حتى تشامخت عزائمهم الجبال ونهض جرحاهم من جديد حاملين سيوفهم غير عابئين بجراحهم يستأنفون قتال أعداء الله وبعد أن قتل زيد بن الخطاب رضي الله عنه الرجال عدو الله رفع ذراعيه الى السماء مبتهلا لربه شاكرا نعمته ثم عاد الى سيفه وإلى صمته حيث كان قد أقسم بالله من لحظات ألا يتكلم حتى يتم النصر أو ينال الشهادة وأخذت المعركة تمضي تدريجيا في صالح المسلمين وراح نصرهم المحتوم يقترب ويسرع وبدأ زيد رضي الله عنه يرى رياح النصر مقبلة فتمنى أن يكرمه الله بالشهادة في ذلك اليوم المشهود يوم اليمامة فتكون خاتمة حياته خاتمة رائعة وبالفعل فقد هبت رياح الجنة تملأ رائحتها أنفه ومآقيه دموعا وظل يضرب بسيفه أعناق أعداء الله حتى سقط شهيدا رحمة الله عليه وكما جمعت الحياة بين زيد ومعن رضي الله عنهما فقد جمعت بينهما الشهادة أيضا حيث ظل معن رضي الله عنه هو الآخر يتقدم ويجاهد حتى نال الشهادة هذا وبإستشهاد زيد وقعت الراية فأخذها سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة فقال المسلمون يا سالم إنا نخاف أن نؤتي من قبلك فقال لهم بئس حامل القرآن أنا إن أوتيتم من قبلي وحمل أبو حذيفة ومولاه سالم بمن معهما على جيش المشركين وأصيب عند ذلك بجراح شديدة فسقط شهيدا ودماؤه الطاهرة تسيل على أرض اليمامة فرأه مولاه وحبيبه سالم وهو يسقط على الأرض فإنطلق نحوه فلما وصل إليه وجده قد خرجت روحه ليلحق بركب الشهداء في الجنة وقاتل هو الآخر يومها أشد القتال إلى أن قتل شهيدا وسقط إلى جنب رفيق حياته أبي حذيفة بن عتبة رضي الله عنه فقد جمع بينهما الموت كما كانت تجمع بينهما الحياة ليلتقيا إن شاء الله في جنات النعيم إخوة على سرر متقابلين وحمل جيش المسلمين على جيش مسيلمة حملة إستطاعوا بها أن يزحزحوا جيوشه عن موقفهم الأول ثم شد المسلمون حتى فر بنو حنيفة إلى الحديقة التي تسمى حديقة الرحمن وكانت منيعة الجدران فتحصنوا بها إلا أن المسلمين إستطاعوا أن يقتحموها بمعونة الصحابي البراء بن مالك رضي الله عنه الذى رفعوه فوق سور الحديقة ونزل إلى بابها ففتحه ودخل المسلمون وهم يكبرون وقتل فيها مسيلمة وكان قاتله هو وحشي بن حرب قاتل أسد الله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه الذى رماه بحربته وفي نفس الوقت كان الصحابي الجليل أبو دجانة الأنصارى يهوى عليه بسيفه وإستمر أبو دجانة في القتال بالحديقة بعد ذلك وهو يرتجز قائلا أنا سماك أبو دجانة لست بذى ذل ولا مهانة ولا جبان القلب ذى إستكانة لا خير في قوم بدين خانة حتى أصابه سهم فحاول النهوض ولكن السهم أصاب قلبه فأغمض فارس الخزرج عينيه وسقط شهيدا رضي الله عنه وصعدت روحه الطاهرة إلى السماء وقد سميت هذه الحديقة بعد ذلك بحديقة الموت وكانت المعركة التي دارت بها معركة فاصلة ففيها إنتصر المسلمون إنتصارا ساحقا وهزم أعداؤهم بعد معركة من أعنف المعارك قتل فيها مسيلمة الكذاب وعدد 21 ألف من قومه وبلغ عدد شهداء المسلمين يومذاك 1200 شهيد منهم غير الصحابة معن بن عدى وزيد بن الخطاب وأبي حذيفة بن عتبة ومولاه سالم وأبي دجانة الصحابة عباد بن بشر والطفيل بن عمرو الدوسي وعبد الله بن عبد الله بن أبي وغيرهم كثير من كبار الصحابة وحفظة وقراء القرآن الكريم رضي الله عنهم جميعا رحمهم الله رحمة واسعة وغفر لهم وأسكنهم فسيح جناته مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وقد بنى أهل اليمامة على قبور الصحابة الذين قتلوا في المعركة قبابا يزورونها وظلت قائمة إلى أن هدم الوهابيون تلك القباب ويتبقي لنا أن نقول في خاتمة هذا المقال أنه كان من أهم نتائج حروب الردة أنها كانت هي السبب الرئيسي الذى دفع الخليفة العظيم أبا بكر الصديق رضي الله عنه لجمع القرآن الجمع الأول في كتاب واحد بعد مشورة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظرا لإستشهاد العديد من حفظة وقراء القرآن الكريم في تلك الحروب منهم خمسمائة في معركة اليمامة .
|