بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
حاطب بن أبي بلتعة بن عمرو بن عمير بن سلمة بن صعب بن سهل بن العتيك بن سعاد بن راشدة بن أذب بن جزيلة بن لخم بن عدى بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان اللخمي رضي الله عنه صحابي من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وكان حليفا لبني أسد بن عبد العزى في الجاهلية وهو ينتمي إلى بني لخم وكانوا يقطنون في بلاد الشام سابقا وقد إستوطنت في الحيرة ببلاد العراق فكانت منازل هذه القبيلة في الجاهلية في العراق والشام وهم قبيلة عربية من إتحاد تنوخ القبلي أو التنوخيين وهم قبائل عربية كانت تقطن في جنوب سوريا والأردن في مملكة الأنباط وغربي العراق وشمال شبه الجزيرة العربية منذ القرن الأول قبل الميلاد وأحيانا تطلق عليهم المصادر اليونانية إسم ساراكينوس وهو المصطلح الذى إستخدمه الرومان للإشارة إلى سكان الصحراء في إقليم البتراء الروماني ثم أصبح يطلق على العرب وفي العصور الوسطى وخلال الحروب الصليبية توسع المصطلح ليشمل كل الذين يدينون بالإسلام وأما بنو أسد بن عبد العزى الذى كان الصحابي حاطب بن أبي بلتعة حليفا لهم فهم بطن من بطون قريش كان فيهم الشورى وهم ينتسبون إلى أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب والذى يلتقي مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الجد الرابع قصي بن كلاب بن مرة بن كعب وكان من أعلامهم أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وإبن عمها ورقة بن نوفل وشقيقيها حزام بن خويلد وولديه خالد وحكيم والعوام بن خويلد وأولاده عبد الرحمن والسائب والزبير وأولاده عبد الله وعروة ومصعب وعمرو أبناء الزبير وأبو البخترى بن هشام وكان ميلاد الصحابي حاطب بن أبي يلتعة في مكة المكرمة في العام الثلاثين قبل الهجرة ونشأ بها وعرف عنه أنه كان رجل حسن الجسم وخفيف اللحية ويميل إلى القصر وأجنب به حدب وغليظ الأصابع وتعلم الرماية منذ صغره فكان من أمهر الرماة وكان يعمل بتجارة الطعام فكان على قدر لا بأس به من الغنى ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة أسلم ولما بدأت هجرة المسلمين إلى المدينة المنورة كان من أوائل المهاجرين مع مولاه سعد بن خولي فنزلا على المنذر بن محمد بن عقبة وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة آخى بينه وبين الصحابي رحيلة بن خالد رضي الله عنه وكانت غزوة بدر هي أولى المشاهد التي شهدها الصحابي حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان عام 2 هجرية وأبلى فيها بلاءا حسنا وأصبح من الصحابة الكرام الذين يطلق عليهم البدريون والذين كانت لهم منزلة ومكانة كبيرة بين صفوف المسلمين على مر الزمان وكان عددهم ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا منهم ستة وثمانون رجلا من المهاجرين ومائتان وواحد وثلاثون من الأنصار منهم مائة وسبعون من قبيلة الخزرج وواحد وستون من قبيلة الأوس وكان منهم ثلاثة لم يباشروا القتال لكنهم صاروا في عداد البدريين لهم أجرهم عند الله مثلهم وأخذوا حصتهم في الغنائم وهم الصحابي الجليل عثمان بن عفان رضي الله عنه الذى أمره النبي برعاية زوجته السيدة رقية رضي الله عنها بنت الرسول صلى الله عليه وسلم وكان قد إشتد عليها المرض والصحابيين الجليلين طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد رضي الله عنهما اللذان كانا في مهمة كلفهما بها النبي صلى الله عليه وسلم لتتبع عير قريش ثم عادا إلى المدينة المنورة ليخبرا النبي صلى الله عليه وسلم عن خبر العير وكانا لم يعلما بخروجه فقدما المدينة في اليوم الذى حدثت فيه المعركة بين المسلمين وقريش ببدر فخرجا من المدينة المنورة مسرعين فلقيا النبي صلى الله عليه وسلم منصرفا من بدر لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب للثلاثة سهما مثل من شهدوا الغزوة وباشروا القتال .
وكان ثاني المشاهد التي شهدها الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم هو غزوة أحد في شهر شوال عام 3 هجرية ولما إنكشف المسلمون بعد أن خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بألا يتركوا موقعهم فوق جبل الرماة فتركوه لكي يجمعوا الغنائم فدارت الدائرة على المسلمين كان للصحابي حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه موقف مع النبي حيث إطلع عليه وكان يغسل وجهه من الماء فقال حاطب من فعل هذا فقال النبي عتبة بن أبي وقاص هشم وجهي ودق رباعيتي بحجر فقال إني سمعت صائحا على الجبل قتل محمد فأتيت إليك وكأن روحي قد ذهبت أين توجه عتبة فأشار إلى حيث توجه فمضى حتى وجده فضربه بالسيف فطرح رأسه فنزل فأخذها وأخذ سلبه وفرسه وجاء للنبي صلى الله عليه وسلم فسلم ذلك له فمنحها إياه ودعا له وقال رضي الله عنك مرتين وبعد أحد شهد حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه غزوة الخندق أو الأحزاب في شهر شوال عام 5 هجرية ثم غزوة بني قريظة في شهر ذى القعدة من نفس العام وفي شهر ذى القعدة عام 6 هجرية شهد بيعة الرضوان وصلح الحديبية وبعد العودة إلى المدينة المنورة قام النبي صلى الله عليه وسلم بمراسلة الملوك والأمراء وقادة الأمم والشعوب والقبائل والجماعات التي كانت موجودة في عصره يدعوهم فيها إلى الإسلام وكانت هذه الرسائل تعد صفحة بارزة من صفحات السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي لأن تلك الرسائل كانت تكشف وجها من وجوه التطبيق العملي الملموس لعالمية الدعوة الإسلامية وكان عدد السفراء النبويين الذين وقع عليهم الإختيار للقيام بهذه المهمة نخبة من خيرة الصحابة الذين يتميزون بالفصاحة والبلاغة وإجادة لغات الملوك والحكام المتوجهين إليهم وذلك خلال الفترة من أواخر عام 6 هجرية وحتى عام 10 هجرية قد بلغ خمسة عشر سفيرا كان منهم على سبيل المثال لا الحصر الصحابي حاطب بن أبي بلتعة وكان سفير النبي صلى الله عليه وسلم للمقوقس كبير قبط مصر والصحابي عبد الله بن حذافة السهمي وكان سفير النبي لكسرى أبرويز ملك الفرس وكان يجيد اللغة الفارسية وأيضا الصحابي دحية الكلبي وكان سفير النبي لهرقل إمبراطور الروم وكان يجيد اللغة السريانية لغة الروم وقد إستشهد واحد من هؤلاء السفراء فقط وهو الصحابي الحارث بن عمير الأزدى الذى قتله شرحبيل بن عمرو الغساني والي البلقاء بشمال غرب الأردن والتي كانت واقعة تحت الحماية الرومانية غدرا قبل أن يبلغ رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى ملك بصرى بجنوب سوريا وهو في طريقه إليه ومزقت رسالة نبوية واحدة فقط من رسائل النبي محمد من جانب كسرى أبرويز ملك الفرس وهي التي حملها إليه عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه وهو ما لم يفعله حتى الذين رفضوا إعتناق الإسلام كما رفض إعتناق الإسلام الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الغساسنة في الشام وصرف بالحسنى السفير النبوى كل من هرقل إمبراطور الروم والمقوقس عظيم قبط مصر والذى قدم هدية للنبي صلى الله عليه وسلم أما باقي الرسائل فقد حققت نتائج ممتازة حيث إنتشر الإسلام بسببها إنتشارا واسعا في تسعة أقطار هي اليمامة وعمان والبحرين واليمن في أربع مناطق شاسعة منها وحضرموت والحبشة حيث إستجاب ملوك وأمراء وحكام هذه الأقطار لدعوة الإسلام وأسلمت معهم أعداد كبيرة من رعاياهم .
ومضي حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه بكتاب رسول الله صلي الله عليه وسلم حتي إنتهي الي الإسكندرية عاصمة مصر آنذاك فوجد المقوقس في مجلس يشرف علي البحر فركب حاطب البحر حتي حاذى مجلس المقوقس فأشار اليه بالكتاب فأمر المقوقس بتسلم الكتاب وإيصال حامله إليه ولما مثل حاطب بين يدى المقوقس قال لحاطب ما يمنع محمدا إن كان نبيا أن يدعو علي فيهلكني فقال حاطب في ذكاء وأدب حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختار سفرائه بعناية ما منع عيسي بن مريم أن يدعو علي من أخذوه من قومه وأرادوا أن يصلبوه ألا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حيث رفعه الله إلى السماء الدنيا فوجم المقوقس ساعة ثم أعاد سؤاله فأعاد حاطب عليه رده فسكت فقال له حاطب إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلي فإنتقم الله به ثم إنتقم منه فإعتبر بغيرك ولا يعتبر غيرك بك وإن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير منه وهو الإسلام الكافي به الله فقد ما سواه وما بشارة نبي الله موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد وما دعاؤنا إياك إلي القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الانجيل ولسنا ننهاك عن الإيمان بالمسيح ولكنا نأمرك به فقال المقوقس أنت حكيم قد جاء من عند حكيم ثم قال إني نظرت في أمر هذا النبي فوجدت أنه لا يأمر بمزهود فيه ولا ينهى عن مرغوب فيه ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكذاب وتدبر المقوقس جيدا ما سمع ثم تدبر الكتاب الذى أرسله النبي صلي الله عليه وسلم مرة أخرى وكان نصه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله الي المقوقس عظيم القبط سلام علي من إتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين يا أهل الكتاب تعالوا الي كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا إشهدوا بأنا مسلمون ولعل المقوقس تأثر بهذا الكتاب كما تأثر بمنطق حاطب بن أبي بلتعة الحكيم فوضع هذا الكتاب في حق من عاج وختم عليه وإستدعي كاتبا يكتب العربية فأملي عليه ما يأتي لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام عليك أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت وما تدعو اليه وقد علمت أن نبيا قد بقي وكنت أظن أنه يخرج من الشام وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم حيث كان شمعون والد هاتين الجاريتين السيدة مارية القبطية وأختها سيرين من عظماء القبط في مصر وكانت له مكانة خاصة لدى المقوقس كما أنه كان من المتعبدين المخلصين العارفين بالإنجيل مما يدل على أن مارية كانت من صلب طاهر ورجل عارف بالله ورسوله وذكر في بعض المصادر أن كل من مارية وسيرين كانتا أميرتين ويبدو أنه كان عند المصريين القدامى عادة تقديم فتيات أسرهم أو اللواتي ينتمين إلى عائلات نبيلة للزواج ممن يرغبون في تقوية العلاقات معهم وأضاف المقوقس في رسالته للنبي وأرسلت إليك بكسوة وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام ويقول العلماء إن الهدية لم تقتصر علي ذلك بل كانت أكثر من ذلك فقد أرسل مع ما ذكر عسلا من عسل بنها وحمارا أشهب ومالا للصدقة وكانت الكسوة ثيابا من قباطي مصر وأرسل مع الجاريتين عبدا إسمه مأبور وأرسل أيضا مع حاطب رسولا عاقلا أوصاه المقوقس أن ينظر من جلساء النبي صلي الله عليه وسلم ويتفرس في ظهره ليرى خاتم النبوة إن كان موجودا وماذا يصنع في المال المرسل إليه .
ومما يذكر أنه أثناء رحلة العودة إلى المدينة المنورة كانت الأختان مارية وسيرين في غاية الأسى والحزن وكانتا تبكيان لأوقات طويلة لكن حاطب رضي الله عنه أخذ يواسيهما ويشرح لهما فضائل الإسلام وروى لهما قصة جدتهما السيدة هاجر وكيف خرجت من مصر وفارقت الأهل والأحباب وسارت تقريبا في نفس المسار الذى كانوا يسيرون فيه ليكرمها الله بالزواج من أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام ولتنجب له نبي الله إسماعيل وتصير أما للعرب وكان لحديث حاطب رضي الله عنه لمارية وسيرين أثره الكبير في أن شرح الله صدريهما للإسلام وبمجرد أن وصل الركب الى المدينة المنورة قالت مارية وأختها أشهد أن لا إله إلا الله وأنك يا محمد رسول الله فسأل النبى عليه الصلاة والسلام السيدة مارية ما الذى دفعك الى الإسلام ولم نجبرك عليه فأجابته يا رسول الله لقد أرسلوا معنا رجالا من أصحابك من مصر الى المدينة وأشهد الله أنهم كانوا أشد أمانا على عرضنا من إخوتى فقلت فى نفسى إن الذى ربى هؤلاء الرجال على تلك الأمانة لايمكن أن يكون بشرا عاديا إنما هو رسول من الله حقا وصدقا وقدم رسول المقوقس الذى قدم مع حاطب إلي النبي الأختين مارية وسيرين إبتتي شمعون والدابتين والعسل والثياب وأعلمه أن ذلك هدية فقبلها النبي صلي الله عليه وسلم وأخذ مارية فأعتقها رسول الله وتزوجها وأنجب منها ولده إبراهيم ووهب أختها سيرين لشاعره حسان بن ثابت رضي الله عنه وأعجبه عسل بنها ودعا له بالبركة وقدم رسول المقوقس المال للنبي صلي الله عليه وسلم وأعلمه أنه صدقة فلم يأخذ النبي صلي الله عليه وسلم منه شيئا ووزعه علي مستحقيه وتفرس الرجل في ظهر النبي صلي الله عليه وسلم حتي رأى خاتم النبوة عبارة عن شامة كبيرة ذات شعرات ورأى أن جلساء النبي صلي الله عليه وسلم أغلبهم من الفقراء والمساكين وأهل الورع والتقوى وعاد الرجل إلي المقوقس فأخبره بما رأى فثبت لديه بأنه نبي وأنه هو الذى بشر به عيسي عليه السلام ولكن الله لم يرد له الهداية والسعادة فظل علي دينه وقبل أن نسترسل في سيرة الصحابي حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه لا يفوتنا أن نذكر أنه كان هدف النبي صلى الله عليه وسلم من مراسلة الملوك والأمراء وقادة الأمم والشعوب والقبائل والجماعات التي كانت موجودة في عصره حرصه على تبليغ دعوته إلى جميع الناس مستخدما أرقى الأساليب والألفاظ المناسبة للتحدث إليهم مع حسن إختياره للسفراء الذين عليهم تبليغ الرسالة لمن وفدوا عليهم والرد على أسئلتهم كما كانت رسائل النبي رسائل سلام لايفهم منها بأى حال من الأحوال إرغام أو إجبار الرسول لأحد من الملوك أو رعاياهم على الإسلام لكنه إستخدم أسلوب الترغيب والترهيب وليس كما يشاع أن الإسلام جاء وإنتشر بالسيف وفي حالة المقوقس كان عدم إسلام المقوقس لا يعني عدم تصديقه لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم حيث أنه رأى في ذلك ما يمكن أن يهدد منصبه وكان حرص المقوقس على إرسال هدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقديرا له وإظهارا لروح المودة والحب .
وفي شهر ذى القعدة من العام السابع للهجرة شهد الصحابي حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه عمرة القضاء وفي العام الثامن للهجرة وبعد أن نقضت قريش صلح الحديبية بعد أن إعتدت قبيلة بكر وكانت حليفة لقريش على رجال من قبيلة خزاعة كانوا قد وفدوا مكة لأداء العمرة وقتلوا عددا منهم في الحرم وكانت خزاعة حليفة للنبي صلى الله عليه وسلم فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يجهز جيش المسلمين ويستنفر القبائل التي دخلت في الإسلام ويعد العدة لفتح مكة كان للصحابي حاطب بن أبي بلتعة موقف بعد من الأمور العجاب التي قل أن يجود الزمان بمثلها حيث كاد أن يفشي سرا عسكريا خطيرا للدولة الإسلامية كان من الممكن أن يكون له أشد وأسوأ الأثر على أمنها وإستقرارها حيث كتب رسالة إلى مشركي مكة يخبرهم فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جهز جيشا لفتحها مخالفا بذلك أوامر القائد الأعلى للمسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرضا جيش المسلمين لخطر عظيم وأرسل بهذه الرسالة مع إمرأة كانت مرتحلة إلى مكة وجعل لها جعلا على أن تبلغها قريشا فجعلتها في رأسها ثم فتلت عليها قرونها ثم خرجت بها من المدينة وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب فإستدعى سريعا علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما وقال لهما أدركا إمرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له من أمرهم فخرجا حتى أدركاها وسألاها عن كتاب حاطب فأنكرته فإلتمساه في رحلها فلم يجدا فيه شيئا فقال لها علي إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك فلما رأت الجد منه قالت أعرض فأعرض فحلت قرون رأسها وإستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى أن هذا الكتاب قال فيه حاطب مخاطبا قريش إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم فإنه منجز له ما وعده فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا وقال له يا حاطب ما حملك على هذا فقال يا رسول الله أما والله إنى لمؤمن بالله وبرسوله ما غيرت ولا بدلت ولكننى كنت إمرؤ ليس لى فى القوم من أصل ولا عشيرة وكان لى بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم وأردت أن يكون لي عندهم جميل يحمدوني عليه وكلي ثقة في أن الله ناصرك عليهم سواء علموا بما أخبرتهم به أو لم أخبرهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنه قد صدقكم فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد شهد بدرا وما يدريك لعل الله قد إطلع على من شهد بدرا فقال لهم إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله قوله تعالى في سورة الممتحنة * يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وإبتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل * وإن المبرر الذى برر به حاطب فعلته والتي من الممكن إعتبارها تقع تحت مسمى الخيانة العظمى ومخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو أمر جلل قد لا يقبله الكثيرون وقد وجدنا إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكلنا يعلم ورعه وفطنته وعدله لم يقبله ورأى أن جزاء حاطب هو أن يقتل بهذا الجرم فكيف يسوغ أن يحاول حماية أهله على حساب جيش كامل ثم كيف يعصي أمرا مباشرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومع كل ذلك إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمه رحمة واسعة وقبل منه عذره في صفح عجيب وعفو نادر وقدر موقفه وعذره ولم يوجه له كلمة لوم أو عتاب بل إنه رفع من قدره وعظم مكانته وقال لعمر كما أسلفنا وعمر يعلم ذلك إِنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله قد إطلع على أهل بدر فقال لهم إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم .
وفي حقيقة الأمر فإن العدل قد يقتضي أن يعاقب حاطب بن أبي بلتعة بصورة أو بأخرى ولكن الرحمة تقتضي النظر إلى الأمر بصورة أشمل فنرى مَن الذي فعل الفعل وما تاريخه وما سوابقه المماثلة وما أعماله السالفة وهل هو من أهل الخير أم من أهل الشر وما الملابسات والخلفيات لهذا الحدث وإن العلاج العاقل له يقتضي كظم الغيظ والتدبر في روية وهدوء وإن الرحمة تقتضي عدم الإنسياق وراء عاطفة العقاب وتلتزم بالبحث الحثيث عن وسيلة تخرج صاحب الأزمة من أزمته وإن العدل درجة عظيمة ولكن الرحمة أعظم وإن الفرق بين الإثنين تلحظه في قول الله تعالى في سورة فاطر وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ فمن العدل إذن أن يأخذ الله عباده بذنوبهم ومن الرحمة أن يؤخرهم إلى أجل مسمى ونلاحظ الفرق بين الإثنين في قوله تعالى أيضا في سورة الشورى وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ فمن العدل أن يصيب الله الناس بعقابه على كل خطأ يكسبونه ومن الرحمة أن يعفو عن كثير وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذ هذا النهج طريقة ثابتة في حياته حيث كان مطبقا لأخلاق القرآن الكريم وأوامره دون تفريط ولا تضييع للأمانة التي إئتمنه الله عليها فقد كان كما وصفته السيدة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما عندما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت كان خلقه القرآن وقد زكاه الله تعالى في سورة القلم وقال عنه وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ وأخيرا نختم مقالنا هذا عن الصحابي حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه بأنه لم تذكر لنا المصادر التاريخية أى معلومات عن سيرته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم خلال عهد الخليفتين الراشدين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ولا في عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه سوى أن وفاته كانت بالمدينة المنورة في عام 30 هجرية في عهد هذا الأخير رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا وجزاهم عنا وعن الإسلام خيرا .
|