بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
وفي شهر ذى القعدة من العام التالي السادس الهجرى لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع عدد 1400 من أصحابه لأداء العمرة ومنعتهم قريش من دخول مكة وكانت بيعة الرضوان ثم صلح الحديبية والذى نص على وقف القتال بين المسلمين وقريش وعقد هدنة مدتها 10 سنوات وعلى أن يعود المسلمون إلى المدينة المنورة هذا العام ويأتون في العام القادم لأداء العمرة وعلى أن تخلي لهم قريش مكة لمدة 3 أيام يؤدون خلالها المناسك كان أبو سفيان غائبا وكان من وقع الصلح مع النبي صلى الله عليه وسلم هو سهيل بن عمرو العامرى وكان من وجهاء وزعماء مكة المكرمة وفي اواخر العام السادس للهجرة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي ملك الحبشة يوكله عنه في الزواج من أم حبيبة رملة بنت ابي سفيان التي كانت قد هاجرت إلى الحبشة بعد إسلامها هي وزوجها عبيد الله بن جحش وهناك حدث تحول غريب في سلوك زوجها حيث قيل إنه إرتد عن الإسلام وقيل إنه تنصر وأدمن الخمر حتى مات من شربها بعد أن سقط من فوق تبة عالية وهو سكران وتركها بمفردها هي وإبنتهما حبيبة في بلاد غريبة بعيدا عن أهلها فهل هناك محنة أقسى وأشد من هذه المحنة ومع موت زوجها إزداد هم وغم أم حبيبة رضي الله عنها فقد أصبحت أرملة ووحيدة ولا سند لها في بلاد الغربة من جهة ومن جهة أخرى فإن والدها أبا سفيان بن حرب زعيم مكة كان آنذاك من أشد أعداء الإسلام والمسلمين ولو فكرت بالعودة من بلاد الحبشة إلى مكة المكرمة سيكون مصيرها هي وإبنتها مجهولا هناك وقد يتم الضغط عليها لترك دينها إلا أن الله عز وجل واساها وكافأها على تمسكها بدينها وصبرها على محنتها بطريقة رائعة جدا فقد رأت رؤيا خير وأن أحدا يناديها قائلا يا أم المؤمنين فإستيقظت مذعورة وأولت الرؤيا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتزوج بها وبالفعل كان هذا هو ما حدث حيث أرسل إليها النجاشي أن توكل أحد المسلمين عنها لكي يعقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم فوكلت الصحابي خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه حيث كان أقرب مسلمي الحبشة لها حيث كان من عشيرتها بني أمية وكان أبوه سعيد بن العاص إبن عم أبيها أبي سفيان بن حرب وارسل النجاشي إلى الصحابي جعفر بن أبي طالب ومن كانوا معه من المسلمين بالحبشة فحضروا وخطب النجاشي فقال الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأنه الذى بشر به المسيح عيسى بن مريم عليه السلام أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصدقتها عنه أربعمائة دينار ثم سكب الدنانير ثم خطب وكيل العروس خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه فقال الحمد لله أحمده وأستعينه وأستنصره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون أما بعد فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب فبارك الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقبض الدنانير ولما سمع أبو سفيان بهذا الخبر ومع أنه كان مشركا فقد فرح بزواج إبنته من الرسول صلى الله عليه وسلم وقال هذا رجل لا يجدع له أنف يقصد الفخر بأنه قد صار صهرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من أكثر أبناء قريش شرفا ومجدا وحسبا ونسبا كما أن مقولته تعني أنه لو أن المشركين قد وجدوا على النبي صلى الله عليه وسلم مأخذا واحدا لملأوا الدنيا صياحا لكنه هو الكريم إبن الكريم الصادق الأمين الورع وكان قبل البعثة إسمه الصادق الأمين أساسا وطلب النبي صلى الله عليه وسلم من النجاشي أن يرسل إليه المسلمون الذين كانوا قد هاجروا إلى بلاده فأرسلهم إليه في سفينتين فوصلوا في بدايات العام السابع الهجرى وكان النبي صلى الله عليه وسلم آنذاك في خيبر وتزامن عودته من خيبر مع وصول المسلمين من الحبشة فبنى النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة رضي الله عنها فصارت أحد أمهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعا .
وبعد عقد صلح الحديبية في شهر ذى القعدة عام 6 هجرية وإنتهاء غزوة خيبر في شهر المحرم عام 7 هجرية أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عدة رسائل إلى ملوك وحكام البلاد المعروفة آنذاك يدعوهم فيها إلى الإسلام كان منها رسالة إلى هرقل إمبراطور الروم حملها له الصحابي الجليل دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه وبعد أن تسلم هرقل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم تصادف أن كان زعيم قريش وقائد جيشها ضد المسلمين في غزوتي أحد والخندق أبا سفيان بن حرب متواجدا في بلاد الشام على رأس قافلة تجارية لقريش وبينما هو ورفاقه متواجدين في سوق الشام إذ هجمت عليهم شرطة هرقل وسألتهم هل أنتم من مكة فقالوا نعم فسألوهم هل أنتم من قريش فقالوا نعم فسألوهم هل تعرفون محمد بن عبد الله الذى يقول إنه نبي فقالوا نعم فقالوا لهم هيا معنا إلى هرقل وساقوهم جميعا نحوا من ثلاثين رجل فقال أبو سفيان ورفاقه للجند الرومان ما الخبر فقالوا إن هرقل جاءه كتاب من محمد الذى يقول إنه نبي سلمه إليه رجل عربي مسلم يدعى دحية الكلبي فلما قرأ هرقل الكتاب قال إن هذا كتاب خطير وإهتم به كل الإهتمام ثم جمع رجال دولته وحاشيته وخواصه وقال لهم هل هنا في الشام أحد من قوم هذا الرجل الذى يزعم أنه نبي فقالوا نعم إن الكثيرين منهم في سوق المدينة فنادى رئيس شرطته وبلهجة الحزم والشدة قال له قلب المدينة ظهرا لبطن حتى تأتيني برجل أو رجال من قوم هذا الذى يدعي أنه نبي فبحثنا عنكم حتى وجدناكم فهيا إلى القصر فلما علم هرقل بوصولهم دعاهم إلى مجلسه وأدخلهم عليه وكان جالسا في مجلس ملكه وعليه التاج المرصع باللؤلؤ والجواهر وحوله عظماء الروم وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان وبين يديه حراس مدججون بالسلاح منظرهم يثير الرعب والرهبة فأمر بهم أن يجلسوا أمامه فجلسوا على فراش الأرض فدعا بترجمانه وطلب منه أن يسألهم أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذى يزعم أنه نبي فقال أبو سفيان أنا أقربهم إليه نسبا فقال هرقل ما قرابتك منه فقال أبو سفيان هو إبن عمي فقال هرقل إقترب وأجلسوه وحده بين يديه وأجلسوا أصحابه من خلفه وقد خص هرقل الأقرب نسبا من النبي بالأسئلة لأنه الأكثر إطلاعا على أموره ظاهرا وباطنا ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه ثم أجلسه وحده بين يديه وأجلس أصحابه خلفه لئلا يستحيوا منه إذ يكذبونه إن كذب لأن المواجهة بالتكذيب وبتكذيب السيد الكبير صعبة محرجة فكونهم خلفه يجعل تكذيبهم له أهون عليه ثم قال هرقل لترجمانه قل لهم إني سائل هذا عن الرجل الذى يدعي أنه نبي والسؤال في الحقيقة موجه إليكم جميعا فإن كذبني فكذبوه وإن أخطأ فصوبوه وأصدقوني القول ولا تخفوا علي شيئا من الأمر وكان في نية أبي سفيان أن يسئ إلى محمد ولو كذبا ولكنه خاف أن يمسك عليه قومه كذبا فيقل في نظرهم حيث كان الكذب عند العرب لا يليق بكرام الرجال فضلا عن رؤسائهم وعلى الرغم من أنه كان لا يخاف من أصحابه أن يكذبوه أمام هرقل حيث كان واثقا من عدم تكذيبهم له لو كذب لمقامه عندهم ولإشتراكهم معه في عداوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولكنه كان يربأ بنفسه عن الكذب وهو سيدهم ويخشى أن يأخذ عليه رفاقه كذبا وبدأ هرقل في سؤاله فقال هذا الذي يزعم أنه نبي كيف حسبه فيكم أهو من أشرافكم ومن ذوى الأصل فيكم فقال أبو سفيان هو صاحب حسب كبير فينا فسأل هرقل هل كان من آبائه ملك فرد أبو سفيان لا لم يكن من آبائه من ملك فسأل هرقل فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فأجاب أبو سفيان لا فسأل هرقل ومن الذين يتبعونه أشراف الناس أم ضعفاؤهم فأجاب أبو سفيان بل ضعفاؤهم فسأل هرقل أيزيدون أم ينقصون فأجاب أبو سفيان بل يزيدون فسأل هرقل هل يرتد أحد منهم عن دينه ساخطا عليه بعد أن يدخله فأجاب أبو سفيان لا فسأل هرقل هل قاتلتموه فأجاب أبو سفيان نعم فسأل هرقل كيف كان قتالكم إياه يغلبكم أم تغلبونه فأجاب أبو سفيان تارة يغلبنا وتارة نغلبه فالحرب بيننا وبينه سجال نوبة له ونوبة لنا غلبنا مرة يوم بدر وأنا غائب وغزوته في بيته يوم أحد فمثلنا بهم وبقرنا البطون وجدعنا الآذان فسأل هرقل فهل يغدر بكم إذا عاهد فقال أبو سفيان لا وأراد أبو سفيان أن ينال من محمد صلى الله عليه وسلم فلم يجد إلا أن يشكك في وفائه بالعهد فقال وبيننا وبينه عهد لا ندري أيغدر بنا أم يفي فسأل هرقل هل إدعى أحد منكم قبله مثل ما يدعي فقال أبو سفيان لا .
وهنا بدأ هرقل يعلن لهم هدفه من الأسئلة وإستنتاجاته من الإجابات فقال لأبي سفيان سألتك عن حسبه فقلت إنه فينا ذو حسب وكذلك الرسل تبعث في أفضل أنساب قومها وسألتك هل كان في آبائه ملك فزعمت أن لا فقلت فلو كان من آبائه ملك جاز أن يكون طالبا ملك آبائه وسألتك عن أتباعه الأشراف أم الضعفاء فقلت الضعفاء وهكذا أتباع الرسل لأن الأشراف يأنفون من تقدم مثلهم عليهم والضعفاء لا يأنفون فيسرعون للإنقياد وإتباع الحق وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب فقلت لا فعرفت أنه ما كان ليترك الكذب على الناس ثم يكذب على الله وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه الجديد ساخطا عليه بعد أن يدخله فقلت لا وكذلك الإيمان إذا خالط غشاء القلوب لا يزول عنه وسألتك هل قاتلتموه وكيف كانت نتيجة قتالكم إياه فقلت إن الحرب بينكم وبينه سجالا وهكذا الرسل يبتلون بالهزيمة ثم تكون لهم العاقبة وسألتك هل يغدر بكم فقلت لا وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك هل قال هذا القول أحد معاصر قبله فقلت لا قلت لو قال هذا القول أحد قبله قلت رجل يأتم بغيره ويقول ما يقولون ثم سألتك بم يأمركم قلت يأمرنا بالصلاة والصدقة وصلة الأرحام والعفة وكذلك الرسل ولقد كنت أعلم أن نبيا سيرسل في آخر الزمان لكني كنت أتوقعه من بني إسرائيل وليس منكم أما اليوم فقد ظهر أنه من العرب لقد كنت أقرأ أوصافه التي ذكرت في التوراة نحو ما سمعت من علامات النبوة إن يكن ما قلته حقا فهو النبي صلى الله عليه وسلم الذى سيملك أتباعه مكان قدمي وملكي ولو كنت أستطيع أن أصل إليه ماشيا لفعلت ولغسلت بيدى رجليه خضوعا له وتبركا به ولكني أخاف من قومي أن يقتلوني لقد كان لي صديق قسيس أسقف أظهر إسلامه وألقى ثيابه التي كانت عليه ولبس ثيابا بيضاء وخرج على الروم فدعاهم إلى الإسلام وشهد شهادة الحق فقاموا إليه فضربوه حتى قتلوه إنني أخافهم ولولا ذلك لتكلفت المشي إليه ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه القارئ وترجمه الترجمان وسمعه بالعربية أبو سفيان ثم طوى هرقل الكتاب وبمظاهر التكريم حفظه وظهر عليه الميل نحو الإيمان فكثر الصياح واللغط في المجلس وإرتفعت الأصوات بإستنكار الكتاب وإستنكار ما فيه فأمر هرقل بإخراج أبي سفيان وأصحابه فخرجوا فقال أبو سفيان لأصحابه لما خلا بهم إن أمر محمد سيعظم إن هرقل يخاف محمدا وقال في نفسه لقد دخلني الخوف من محمد وأيقنت أنه لا محالة ظاهر وغالب .
وقبل فتح مكة جاء أبو سفيان بن حرب من مكة إلى المدينة المنورة وذلك بعد ان نقضت قريش صلح الحديبية وإعتدى بنو بكر حلفاؤهم على مسلمي قبيلة خزاعة في الحرم والذين كانوا ضمن حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ونتيجةً لذلك الغدر والنقض في العهد خرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين رجل من خزاعة حتى قدموا على الرسول محمد في المدينة المنورة وأخبروه بما كان من بني بكر وبمن أصيب منهم وبمناصرة قريش لبني بكر عليهم وكان أبو سفيان يتصور أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم بذلك طالبا أن يمد النبي صلى الله عليه وسلم هدنة الحرب التي تحددت في صلح الحديبية مخافة أن يقوم النبي محمد صلى الله عليه وسلم بفتح مكة فلم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاول أبو سفيان أن يوسط أبا بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا على التوالي فلم يفلح فجاء إلى إبنته أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها وأراد أن يجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فطوته دونه فقال يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أو بي عنه فقالت له بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت إمرؤ مشرك نجس فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها يا بنية لقد أصابك بعدى شر فقالت بل هداني الله للإسلام وأنت يا أبت سيد قريش وكبيرها كيف يسقط عنك الدخول في الإسلام وأنت تعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر فقام من عندها مغضبا وعاد أدراجه إلى مكة وبذلك نجد أن السيدة أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها قد طلت مخلصةً للنبي صلى الله عليه وسلم ولدينه ولبيته ومستمسكة بسنته صلى الله عليه وسلم وعلمت أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها بعد ذلك بأن الرسول يريد فتح مكة فدعت الله أن يسلم أبوها كما أسلم غيره وحدث أن قابل النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس وهو في طريقه إلى مكة لفتحها وقد خرج مهاجرا للمدينة فإصطحبه معه إلى مكة ورأى العباس جيش المسلمين الذى كان قوامه عشرة آلاف مقاتل فأدرك أن لا قبل لقريش بهم وأمر الرسول بإيقاد النيران فأوقدوا عشرة آلاف نار في ليلة واحدة حتى ملأت الأفق فكان لمعسكر المسلمين منظر مهيب كادت تنخلع قلوب القرشيين من شدة هوله وقد قصد الرسول محمد من ذلك تحطيمَ نفسيات أعدائه والقضاءَ على معنوياتهم حتى لا يفكروا في أية مقاومة وإجبارهم على الإستسلام لكي يتم له تحقيق هدفه دون إراقة دماء وركب العباس بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج يلتمس من يوصل الخبر إلى مكة ليخرجوا إلى رسول الله فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة وكان كل مكن أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء قد خرجوا يلتمسون الأخبار فلما رأوا النيران قال أبو سفيان ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا فقال بديل هذه والله خزاعة حمشتها الحرب فقال أبو سفيان خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها وسمع العباس أصواتهم فعرفهم فقال يا أبا حنظلة فقال أبو الفضل قال نعم قال ما لك فداك أبي وأمي فقال العباس قلت ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس واصباح قريش والله قال فما الحيلة فداك أبي وأمي قال والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فإركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله فأستأمنه لك فركب أبو سفيان خلفه وإنصرف عنه صاحباه وحذر العباس أبا سفيان من التعرض لجيش المسلمين حيث لا قبل لقريش به وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد قتالا في البلد الحرام .
ودخل العباس معسكر المسلمين وكلما مر بنار من نيران المسلمين قالوا من هذا فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته حتى مر العباس بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال من هذا وقام إلى العباس فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال أبو سفيان عدو الله الحمد لله الذى أمكن منك بغير عقد ولا عهد ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليه فقال يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني فلأضرب عنقه فقال العباس يا رسول الله إني قد أجرته فلما أكثر عمر في شأنه قال العباس مهلا يا عمر فوالله أن لو كان من بني عدى ما قلت هذا ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف فقال مهلا يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فإتني به فلما أصبح أتى به العباس فلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له النبي ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله فقال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني بعد قال ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله فقال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا فقال له العباس ويحك أسلم قبل أن نضرب عنقك فشهد شهادة الحق وأسلم فقال العباس يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فإجعل له شيئا قال نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن فقال رسول الله يا عباس إحبسه بمضيق الوادى عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها فخرج العباس ونفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرت القبائل واحدة وراء الأخرى على راياتها وكلما مرت قبيلة قال أبو سفيان يا عباس من هذه فيقول غفار فيقول أبو سفيان ما لي ولغفار ثم مرت به قبيلة أخرى فقال يا عباس من هؤلاء فيقول سليم فيقول أبو سفيان ما لي ولسليم ثم مرت قبيلة ثالثة فقال أبو سفيان يا عباس من هؤلاء فيقول مزينة فيقول يا أبا الفضل ما لي ولمزينة قد جاءتني تقعقع من شواهقها ثم مرت قبيلة رابعة فقال أبو سفيان يا عباس من هؤلاء فيقول جهينة فيقول أبو سفيان ما لي ولجهينة ثم مرت قبيلة خامسة فقال أبو سفيان يا عباس من هؤلاء فيقول كنانة بنو ليث بن بكر وبنو ضمرة بن بكر فقال أبو سفيان نعم أهل شؤم والله هؤلاء الذين غزانا محمد بسببهم أما والله ما شوورت فيهم ولا علمته ولكنه أمر حتم ثم مرت قبيلة سادسة فقال أبو سفيان من هؤلاء يا عباس فيقول أشجع فقال أبو سفيان هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد وهكذا توالى مرور القبائل حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد فقال أبو سفيان سبحان الله يا عباس من هؤلاء فقال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار فقال أبو سفيان ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة ثم قال والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك إبن أخيك اليوم عظيما فقال العباس يا أبا سفيان إنها النبوة فقال فنعم إذن فقال له العباس النجاة إلى قومك وكان الهدف من أن يرى أبو سفيان مرور القبائل أمامه بأسلحتها وراياتها هو هزه هزة قوية يدرك من خلالها أن لا قبل لقريش بالمسلمين وأن عليها الإستسلام دون قيد أو شرط .
وترك العباس أبا سفيان ليدخل مكة فدخلها مسرعا بعد أن أدرك تمام الإدراك بضرور الإستسلام للمسلمين وإلا ستكون العواقب وخيمة على قريش ونادى بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به فمن دخل دارى فهو آمن فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه وقالت إقتلوا الحميث الدسم الأحمس قبح من طليعة قوم فقال ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن فقالوا قاتلك الله وما تغني عنا دارك قال ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن وتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد ودخلت قوات المسلمين مكةَ من جهاتها الأربع في آن واحد ولم تلق تلك القوات مقاومة تقريبا وكان في دخول جيش المسلمين من الجهات الأربع ضربةٌ قاضيةٌ لجنود قريش حيث عجزت عن التجمع وضاعت منها فرصةُ المقاومة وكان هذا من التدابير الحربية الحكيمة التي لجأ إليها الرسولُ محمد عندما أصبح في مركز القوة في العدد والعتاد ونجحت خطة الرسول فلم يستطع المشركون المقاومة ولا الصمودَ أمام الجيش الزاحف إلى أم القرى فإحتل كل فيلق منطقته التي وجه إليها في سلم وإستسلام إلا ما كان من المنطقة التي توجه إليها خالد بن الوليد رضي الله عنه في أسفل مكة فقد تجمع بعض رجال قريش كان على رأسهم صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وغيرهم مع بعض حلفائهم في مكان إسمه الخندمة وتصدوا للقوات المتقدمة بالسهام وصمموا على القتال فأصدر خالد بن الوليد أوامره بالإنقضاض عليهم وما هي إلا لحظات حتى قضى على تلك القوة وشتت شمل أفرادها ففروا كلهم وبذلك أكمل الجيش السيطرةَ على مكة المكرمة ودخل الرسول محمد مكةَ وعليه عمامة سوداء بغير إحرام وهو خافض رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى إن ذقنه كان ليكاد يمس واسطة الرحل ودخل وهو يقرأ سورة الفتح مستشعرا بنعمة الفتح وغفران الذنوب وإفاضة النصر العزيز ودخل النبي البيت فطاف به وفي يده قوس وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بالقوس ويقول جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ويقول أيضا جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ والأصنام تتساقط على وجوهها ورأى في الكعبة الصور والتماثيل فأمر بالصور وبالتماثيل فكسرت وأبى أن يدخل جوف الكعبة حتى أخرجت الصور وكان فيها صورة يزعمون أنها صورة نبي الله إبراهيم وإبنه نبي الله إسماعيل عليهما السلام وفي يديهما من الأزلام فقال الرسول محمد قاتلهم الله لقد علموا ما إستقسما بها قط وحان وقت الصلاة فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم مؤذنه بلال بن رباح أن يعتلي سطح الكعبة وأن يرفع الآذان فخلع بلال لباس الحرب وصعد ليؤذن على الكعبة وكان كل من أبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام بن المغيرة جلوس بفناء الكعبة المشرفة فقال عتاب لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه فقال الحارث أما والله لو أعلم أنه حق لإتبعته فقال أبو سفيان أما والله لا أقول شيئا لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء فخرج عليهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فقال لهم قد علمت الذى قلتم ثم ذكر ذلك لهم فقال الحارث وعتاب نشهد أنك رسول الله والله ما إطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك .
وبعد أن أسلم أبو سفيان جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله مرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين قال نعم قال ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك قال نعم ثم سأل النبي أن يتزوج من عزة إبنته وإستعان على ذلك بأختها أم حبيبة فلم يقع ذلك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يحل له حيث لا يحل للمرء أن يجمع بين الأختين في وقت واحد وخرج أبو سفيان بعد أيام قليلة مع المسلمين إلى غزوة حنين في شهر شوال عام 8 هجرية ثم حصار الطائف في شهر ذى القعدة عام 8 هجرية وعند توزيع غنائم غزوة حنين التي إنتصر فيها المسلمون إنتصارا ساحقا على قبائل هوازن خص النبي صلى الله عليه وسلم كثير من حديثي العهد بالإسلام بل وغير المسلمين من سادات قريش بالكثير منها بهدف تأليف قلوبهم وجمعها على الدين القويم وهذا ضرب من ضروب السياسة الدينية حتى جعل الله من الصدقات قسما للمؤلفة قلوبهم فعلى سبيل المثال أعطى النبي صلى الله عليه وسلم كل من أبي سفيان وإبنه معاوية وإبنه يزيد أربعين أوقية ذهب ومائة من الإبل فقال له أبو سفيان بأبي أنت وأمي لأنت كريم في السلم والحرب وكذلك حكيم بن حزام الذى طلب زيادة في نصيبه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه كالذى يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى فكانت تلك الأموال آخر ما قبلها حكيم بن حزام في حياته وفضلا عن ذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن سيد قبيلة فزارة من غطفان مائة من الإبل وكذلك الأقرع بن حابس التميمي وكان من سادات قبيلة تميم وصفوان بن أمية القرشي الجمحي الذى منحه النبي صلى الله عليه وسلم ملء شعب نعما وشاء فقال صفوان ما طابت بمثل هذا نفس أحد وكان ذلك سببا في إسلامه وقد عاد ذلك بفائدة عظمى فإن كثيرين ممن أعطوا في هذا اليوم ولم يكونوا بعد قد أشربوا في قلوبهم حب الإسلام صاروا بعد من أجلاء المسلمين وأعظمهم نفعا كصفوان بن أمية الجمحي ويزيد ومعاوية إبني أبي سفيان والحارث بن هشام بن المغيرة وحكيم بن حزام وغيرهم ومما يذكر أن أبا سفيان في يوم حنين قد أصيبت إحدى عينيه فخيره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو له فتبرأ عينه أو يضمن له بيتا في الجنة فإختار أن يكون له بيتا في الجنة وبعد ذلك رفع النبي صلى الله عليه وسلم من شأن ابي سفيان وولاه عاملا له على منطفة نجران بجنوب غرب الجزيرة العربية وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ولايته عليها وفي أواخر العام التاسع للهجرة وبعد أن أتى وفد قبيلة ثقيف المدينة المنورة لكي يعلنوا إسلامهم كان أبو سفيان ضمن السرية التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم بقيادة خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة الثقفي رضي الله عنهما إلى الطائف لهدم صنم اللات التي كانت تعبدها ثقيف وكانت هذه إشارة هامة وحسن تدبير من النبي صلى الله عليه وسلم حيث أن أبا سفيان زعيم الوثنية السابق هو الذى جاء بنفسه لهدم أشهر أصنام العرب .
ولما بدأت حركة الفتوحات في بلاد الشام إرتحل أبو سفيان وزوجته هند بنت عتبة إلى الشام وكانت هند قد أسلمت هي الأخرى ونساء معها بعد فتح مكة وأتين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالأبطح فبايعنه فتكلمت هند وكانت منتقبة فقالت يا رسول الله الحمد لله الذى أظهر الدين الذى إختاره لنفسه لتنفعني رحمك يا محمد إني إمرأة مؤمنة بالله مصدقة برسوله ثم كشفت عن نقابها وقالت أنا هند بنت عتبة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرحبا بك فقالت والله ما كان على الأرض أهل خباء أحب إلي من أن يذلوا من خبائك ولقد أصبحت وما على الأرض أهل خباء أحب إلي من أن يعزوا من خبائك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيادة وقرأ عليهن القرآن وبايعهنّ فقالت هند من بينهن يا رسول الله نماسحك فقال إني لا أصافح النساء إن قولي لمائة إمرأة مثل قولي لإمرأة واحدة وبعد أن أسلمت هند جعلت تضرب صنما كان في بيتها بالقدوم حتى هشمته تماما وهي تقول كنا منك في غرور وإلتحق ابو سفيان وزوجته هند بجيش يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه وشهدا معركة اليرموك في شهر رجب عام 13 هجرية وياسبحان الله وسبحان مقلب القلوب كان أبو سفيان يومها هو داعية الجيش يسير وسط الجند يثير حماستهم وينادى بأعلى صوت قائلا الله الله عباد الله إنصروا الله ينصركم اللهم هذا يوم من أيامك اللهم أنزل نصرك على عبادك يانصر الله إقترب أما زوجته هند بنت عتبة فكانت قائدة النساء الذين أمرهن قائد الجيش خالد بن الوليد رضي الله عنه بالوقوف خلف الجيش وهن يمسكن أعمدة الخيام فإذا رأين أحد الجنود يفر من المعركة فعليهن بضرب أرجل فرسه لكي يعود إلى المعركة وأخيرا كانت وفاة أبي سفيان رضي الله عنه في عام 31 هجرية بالمدينة المنورة في عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه عن عمر يناهز التسعين عاما تقريبا ودفن بالبقيع رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وجزاه عنا وعن الإسلام خير الجزاء وكلمة أخيرة نختم بها مقالنا عن أبي سفيان صخر بن حرب فنقول كم هو عظيم منهج ديننا الحنيف الذى يقبل ألد أعدائه إذا دخلوا فيه ويكرمهم ويحفظ لهم مكانتهم فلم يكن هناك من هو أشد عداءا للإسلام من أبي سفيان وأبنائه وزوجته لكن الله أكرمهم وبعد عناد طويل إستمر أكثر من 20 عاما هداهم الله للإسلام وحسن إسلامهم وخرجوا يجاهدون في سبيل نصرة الإسلام والمسلمين من أجل نشر دين الله في شتى بقاع الأرض فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفي بالإسلام نعمة .
|