بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر والذى يكنى بقريش بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان وهو من نسل نبي الله إسماعيل عليه السلام القرشي الهاشمي رضي الله عنه صحابي من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يلتقي معه في الجد الأول عبد المطلب بن هاشم فهو عم النبي صلى الله عليه وسلم وشقيق أبيه عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم من الأب وفضلا عن ذلك فقد كان عديل النبي صلى الله عليه وسلم مرتين حيث تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة أم المؤمنين زينب بنت خزيمة رضي الله عنها وبعد وفاتها تزوج بعد ذلك من السيدة أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها وهي آخر زوجاته بعد عمرة القضاء في شهر ذى القعدة عام 7 هجرية حيث أن الأولى كانت أخت السيدة الصحابية لبابة الكبرى بنت الحارث زوجة العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه من الأم والثانية كانت أختا لها من الأب والأم وكان هو ثاني من أسلم من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم ممن أدركوا الإسلام بعد عمه سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه بينما لم يسلم عماه الآخران اللذان أدركا الإسلام وهما أبو طالب وأبو لهب بينما لم يدرك باقي أعمامه الإسلام وهو ينتمي إلى بني هاشم قوم النبي صلى الله عليه وسلم والتي كانت من عشائر قبيلة قريش الكبيرة وكان ينظر إليهم على أنهم من بين بطون قبيلة قريش الثلاث الأقوى والأكثر نفوذا في مجتمع مكة المكرمة قبل ظهور الإسلام وكانوا مسؤولين عن السقاية والرفادة وخدمة الحجيج وكان منهم أعمام النبي العباس وحمزة وأبى طالب وأبنائه علي وجعفر وعقيل وكان البطن الثاني بنو أمية وكانوا مسؤولين عن العلاقات السياسية بين قريش وسائر قبائل شبه الجزيرة العربية وكان منهم الصحابي أبو سفيان بن حرب وأولاده السيدة أم المؤمنين السيدة أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها زوجة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومعاوية بن أبي سفيان وأخيه يزيد بن أبي سفيان والخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنهم جميعا أما البطن الثالث فكان بنو مخزوم وكانوا مسؤولين عن إعداد وتجهيز قريش للحرب والقتال وكانت لهم أعنة الخيل والسلاح في قريش وكان أطفالهم يتدربون منذ الصغر على إستعمال الأسلحة بأنواعها المختلفة وإصابة الهدف وترويض الخيل وكان منهم أم المؤمنين السيدة أم سلمة رضي الله عنها الزوجة السادسة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وسيف الله المسلول عبقرى الحرب خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي وأخواه الوليد وهشام وعكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام أحد قادة جيوش الإسلام في حروب الردة وفتوحات الشام بعد إسلامه وزوجته الصحابية أم حكيم بنت الحارث بن هشام وابوها الحارث بن هشام بن المغيرة وكان ميلاد الصحابي الجليل العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قبل عام الفيل بحوالي 3 سنوات فهو أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنوات ولما سئل من الأكبر سنا أنت أم النبي فقال هو أكبر مني وأنا ولدت قبله وحدث أن فقد وهو صغير فنذرت أمه نتيلة بنت جناب إن وجدته أن تكسو البيت بالحرير والديباج وأصناف الكسوة فعثرت عليه فوفت بنذرها فكانت أول من فعل هذا وقيل في وصفه بأنه كان شريفا مهيبا عاقلا جميلا أبيض بضا له ضفيرتان معتدل القامة وقيل أيضا إنه كان من أطول الرجال وأحسنهم صورة وأبهاهم وأجهرهم صوتا ومما يذكر في جهورية صوته أنه كان عندما يحتاج غلمانه يقف على جبل سلع ويسمعهم وهم في الغابة على بعد ثمانية أو تسعة أميال وعلاوة على ذلك فقد كان يتصف بالأناة والحلم الوافر والسؤدد والفطنة والدهاء والذكاء كما إشتهر بأنه كان جوادا مفرط الجود وصولا للرحم والأهل وكان أبوه عبد المطلب بن هاشم جد النبي محمد صلى الله عليه وسلم زعيما وسيدا لقريش وكان يتولى مهمة خدمة سقاية الحجيج بعد أن أعاد حفر بئر زمزم التي كانت قد طمرت في السابق وإنتقلت منه هذه المهمة إلى إبنه أبي طالب بن عبد المطلب .
وحدث أن أملق أبو طالب بعض السنين فإستدان من أخيه العباس مبلغ عشرة آلاف درهم إلى الموسم التالي فأنفقها أبو طالب على الحجيج ذلك العام فيما يتعلق بالسقاية وفي العام الذى يليه لم يكن مع أبي طالب شئ فقال لأخيه العباس أسلفني أربعة عشر ألفا أيضا إلى العام المقبل لأعطيك جميع مالك فقال له العباس بشرط إن لم تعطني تترك السقاية لأكفلها فقال نعم فلما أتى العام التالي لم يكن مع أبي طالب شئ ليعطيه لأخيه العباس سدادا لدينه فترك له مهمة السقاية وكان من أكثر قريش مالا فقام بها وعليه كانت عمارة المسجد ومما يذكر أنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك قبل البعثة إملاق عمه أبي طالب إتفق مع عمه العباس أن يتركا عقبل بن أبي طالب الإبن الأكبر لأبي طالب لكي يساعده على أمور الحياة والمعيشة ومن أجل تخفيف النفقات عليه وأن يكفل النبي أخاه الأصغر علي بن أبي طالب بينما يكفل العباس إبنه الأوسط جعفر بن أبي طالب وبعد أن بدأ النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى الإسلام لم يكن العباس بن عبد المطلب من السابقين إلى الإسلام لكنه لم يشارك مشركي قريش في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وبفطنته التي عززتها مكانته الرفيعة في قريش إستطاع هو وأخوه الأكبر أبو طالب بن عبد المطلب والذى لم يدخل الإسلام أيضا أن يدرأ عن الرسول صلى الله عليه وسلم الكثير من الأذى والسوء وقبل الهجرة لما أسلمت السيدة لبابة الكبرى بنت الحارث رضي الله عنها زوجة العباس بن عبد المطلب عانت مما كان يعانيه المسلمون من الإضطهاد والأذى وكانت مع زوجها العباس ومع بني هاشم في شعب أبي طالب وهو المكان الذى قوطعت وحوصرت فيه بنو هاشم ومن إنحاز معهم من بني عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف لمدة ثلاثة سنوات بداية من السنة السادسة من النبوة بسبب قرار إتخذه سادة قريش من المشركين في بداية ظهور الإسلام وذلك للضغط على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولثنيه عن الدعوة للدين الجديد فتعاهدوا على ألا يتعاملوا معهم إقتصاديا وإجتماعيا بأى شكل من المعاملات كالبيع والشراء والزواج وألا يجالسوهم ولا يدخلوا بيوتهم ولا يكلموهم وأن لا يقبلوا من بني هاشم وبني عبد المطلب صلحا أبدا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا الرسول صلى الله عليه وسلم لهم للقتل وعلقوا صحيفة بهذا المضمون على جدران الكعبة المشرفة وفي هذا الشعب حملت لبابة وأنجبت إبنها عبد الله بن عباس رضي الله عنه حيث جاء العباس للنبي وقال له يا محمد أرى أن أم الفضل وهي كنية زوجته نسبة إلى إبنه الأكبر قد إشتملت على حمل فقال النبي صلى الله عليه و سلم لعل الله أن يقر أعينكم وبينما كانت لبابة مارة والنبي صلى الله عليه وسلم في الحجر قال يا أم الفضل فقالت لبيك يا رسول الله قال إنك حامل بغلام فإذا وضعتيه فآتيني به فلما وضعته أتيت به النبي فسماه عبد الله وألياه أى حنكه بريقه وقال إذهبي به فلتجدنه كيسا ثم أتت زوجها العباس فأخبرته فتبسم ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه فقبل ما بين عينيه وأقعده عن يمينه ثم قال هذا عمي فمن شاء فليباه بعمه ولم لا أنت عمي وبقية آبائي والعم والد .
ومما يذكر أن بعض المصادر التاريخية قد ذكرت أن العباس رضي الله عنه كان من المسلمين الأوائل ولكنه كتم إسلامه ويقول أبو رافع خادم الرسول صلى الله عليه وسلم كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخل أهل البيت فأسلم العباس وأسلمت زوجته أم الفضل وأسلمت معهما لكن كان العباس يكتم إسلامه ولم يهاجر إلى المدينة المنورة وظل مقامه بمكة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها وكانت قريش دوما تشك في نوايا العباس ولكنها لم تجد عليه سبيلا كما ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمره بالبقاء في مكة ليكون عينا للمسلمين ولكي ينقل لهم أخبار قريش أولا بأول وفي بيعة العقبة الثانية عندما قدم مكة في موسم الحج وفد الأنصار الذى كان يضم ثلاثة وسبعون رجلا وإمرأتين ليعطوا الله ورسوله بيعتهم وليتفقوا مع الرسول على الهجرة إلى المدينة أنهى الرسول نبأ هذا الوفد إلى عمه العباس فقد كان يثق بعمه وفي رأيه فلما إجتمع مع وفد الأنصار بصحبة عمه كان العباس أول المتحدثين فقال يا معشر الخزرج إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه فهو في عز من قومه ومنعة في بلده وإنه قد أَبى إلا الإنحياز إليكم واللحاق بكم فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده فقال وفد الأنصار يا رسول الله نبايعك قال تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة فقاموا إليه فبايعوه وبعد تمام البيعة قال النبي صلى الله عليه وسلم لوفد الأنصار أخرجوا إلي منكم إثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم فأخرجوا منهم إثني عشر نقيبا تسعة من الخزرج وهم أسعد بن زرارة وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة ورافع بن مالك والبراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حرام وعبادة بن الصامت وسعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وثلاثة من الأوس وهم أسيد بن حضير وسعد بن خيثمة ورفاعة بن عبد المنذر رضي الله عنهم جميعا وقال النبي صلى الله عليه وسلم للنقباء أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لنبي الله عيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي وجعل أسعد بن زرارة رضي الله عنه نقيبا على هؤلاء النقباء فأصبح يلقب بنقيب النقباء وبهذه البيعة بدأت هجرة المسلمين إلى المدينة المنورة وبدأت مرحلة وحلقة جديدة في مسيرة الإسلام وبناء دولته ونشر دين الإسلام في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية ثم بعد ذلك في بلاد العراق وفارس والشام ومصر وأفريقية وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر دائما بعد هجرته للمدينة المنورة ليلة بيعة العقبة فيقول أيدت تلك الليلة بعمي العباس بن عبد المطلب وكان يأخذ على القومِ ويعطيهم .
ومرت الأيام وقبل غزوة بدر بثلاث ليال رأت عاتكة بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم وشقيقة العباس رؤيا أفزعتها فبعثت إلى أخيها العباس وقالت له يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة فإكتم عني ما أحدثك فإنهم إن سمعوها تعني كفار قريش آذونا وأسمعونا ما لا نحب فعاهدها العباس على أن يكتم عنها وقال لها ما رأيت فقالت رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته ألا فإنفروا يا آل غدر أى يا أصحاب الغدر وعدم الوفاء إلى مصارعكم في ثلاث أى بعد ثلاثة أيام ثم رأيت الناس إجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره أى إنتصب به على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها ثم مثل به بعيره على رأس جبل أبي قبيس فصرخ بمثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوى حتى إذا كانت بأسفل الجبل تكسرت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلها منها فلقة فقال لها العباس والله إن هذه لرؤيا وأنت فإكتميها ولا تذكريها لأحد ثم خرج فلقي الوليد بن عتبة وكان صديقا له فذكر الرؤيا له وإستكتمه لكنه ذكرها لأبيه عتبة بن ربيعة فتحدث بها ففشا الحديث وقال العباس فغدوت لأطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة فلما رآني أبو جهل قال يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم فقال أبو جهل لعنه الله يا بني عبد المطلب متى حدثت فيكم هذه النبية فقال العباس وما ذاك قال ذاك الرؤيا التي رأت أختك عاتكة فقال العباس وما رأت فقال ساخرا يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تستنبأ رجالكم حتى تستنبأ نساؤكم وما رضيتم يا بني هاشم بكذب الرجال حتى جئتمونا بكذب النساء فقد زعمت عاتكة في رؤياها أن إنفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يك حقا ما تقول فسيكون وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شئ نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب فقال العباس فوالله ما كان مني إليه كبير إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا وإن الكذب فيك وفي أهل بيتك. فقال من حضرهما ما كنت يا أبا الفضل جهولا ولا خرقا ولقي العباس رضي الله تعالى عنه من أخته عاتكة أذى شديدا حين أفشى من حديثها حيث قال العباس فلما أمسيت لم تبق إمرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني قائلة أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ثم لم يكن عندك غيرة لشئ مما سمعت فقال لهن لهن وأيم الله لأتعرضن له وإن عاد قاتلته وغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه فدخلت المسجد فرأيته فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود إلى بعض ما قاله فأوقع به إذ هو قد خرج نحو باب المسجد يشتد أى يعدو فقلت في نفسي ما له لعنه الله أكل هذا خوف مني فإذا هو يسمع ما لم أسمع سمع صوت ضمضم بن عمرو الغفارى وهو يصرخ ببطن الوادى واقفا على بعيره قد قطع أنفه وأذناه وحول رحله وشق قميصه وهو يقول يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أى أدركوا اللطيمة وهي العير التي تحمل أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها وفي لفظ إن أصابها محمد لم تفلحوا أبدا الغوث الغوث فقال العباس فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر فتجهز الناس سراعا وفزعوا أشد الفزع وخافوا من رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب .
ومع أن القافلة قد نجت بعد أن غير أبو سفيان مسار القافلة إلى طريق ساحل البحر الأحمر بعيدا عن الطريق المعتاد وبعد أن كان قد أرسل لقريش يستنفرهم عاد وأرسل إليهم بأنه لا داعي للخروج عندما تأكد من نجاة القافلة وهو بالجحفة وهو موضع بين المدينة ومكة وطلب منهم العودة إلى مكة إلا أن قريش كانت قد تحفزت وقال زعماؤها وكبراؤها أيظن محمد وأصحابه أن تكون عيرنا كعير إبن الحضرمي كلا والله ليعلمن غير ذلك فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي فإنه عوض عنه رجلا كان له عليه دين وقام أبو جهل عمرو بن هشام فقال والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم بها ثلاثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف لنا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا ولكن بني زهرة عصوه وإنشقوا عن الجيش وعادوا إلى مكة وكانت بنو عدى قبلهم قد تخلفت عن الخروج ولم تكن قريش تخفي شكوكها في نوايا العباس بن عبد المطلب ولذا فقد وجدت في غزوة بدر فرصة لإختبار حقيقته ونواياه فإضطر إلى المشاركة في الغزوة مكرها ولما إلتقي الجمعان في بدر نادى الرسول صلى الله عليه وسلم في أصحابه قائلا إن رجالا من بني هاشم ومن غير بني هاشم قد أخرجوا مكرهين ولا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدهم فلا يقتله فمن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله فإنما أخرج مستكرها ومن لقي أبا البخترى بن هشام فلا يقتله عرفانا بموقفه في نقض الصحيفة الظالمة التي كتبتها قريش وعلقتها في جوف الكعبة المشرفة تحرض فيها على مقاطعة بني هاشم حتى يسلموهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وأرادت عناية الله أن يتم أسر العباس فيمن أسر يوم بدر وكان أسره على يد الصحابي أبي اليسر كعب بن عمرو رضي الله عنه والذى قال في هذا الأمر نظرت إلى العباس يوم بدر وهو واقف كأنه صنم وعيناه تذرفان فقلت جزاك الله من ذى رحم شرا أتقاتل إبن أخيك مع عدوه الله أعز له وأنصر من ذلك فقال العباس ما تريد إلى قلت الأسر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلك فقال ليست بأول صلته فأسره أبو اليسر وحدث أن سهر النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة فقال له بعض أصحابه ما يسهرك يا نبي اللَّه فقال أسهر لأنين العباس فقام رجل وأرخى وثاقه فقال الرسول مالي لا أسمع أنين العباس فقال الرجل أنا أرخيت من وثاقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم فإفعل ذلك بالأسرى كلهم وطلب الرسولمن العباس أن يفدى نفسه وذويه إبني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وحليفه عتبة بن عمرو فرفض العباس قائلا إني كنت مسلما قبل ذلك وإنما إستكرهوني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم الله أعلم بشأنك إن يك ما تدعى حقا فالله يجزيك بذلك وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا فإفْد نفسك وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذ منه عشرين أوقية من ذهب وطلب العباس أن يحسبها من فداه فقال له لا ذاك شئ أعطاناه اللَّه منك فقال العباس للرسول فإِنه ليسَ لي مال فقال له الرسول فاين المال الذى وضعت بمكة حين خرجت عند زوجتك أُم الفضل بنت الحارث وليس معكما أحد ثم قلت لها إن أصبت في سفرى هذا فللفضل كذا وكذا ولعبد الله كذا وكذا فقال العباس والذى بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيرى وغيرها وإِني لأعلم أنك رسول الله وبعثت له أم الفضل من مكة بفديته وبفدية إبني أخويه عقيل ونوفل وحليفة عتبة فأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم سراحهم فأنزلت آية سورة الأنفال يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وفيما بعد كان العباس يقول في نزلت واللَّه حين ذكرت وأنا أسير لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إِسلامي وبعد أن إفتدى العباس نفسه ومن معه عادوا إلى مكة وتفرغ لعمارة البيت الحرام وللسقاية والرفادة التي كانت في بني هاشم ولم يشارك في غزوتي أحد والخندق وفي عمرة القضاء في شهر ذى القعدة عام 7 هجرية كان هو من زوج النبي صلى الله عليه وسلم بآخر زوجاته السيدة أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها وهي كما أسلفنا كانت شقيقة أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث زوجة العباس وكانت قد وكلت أمرها لشقيقتها لبابة والتي بدورها وكلت أمرها لزوجها العباس .
ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة في شهر رمضان عام 8 هجرية لفتح مكة بعد أن نقضت قريش وحلفاؤها صلح الحديبية حدث أن قابل النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس وهو في الطريق إلى مكة بعد أن أعلن إسلامه وخرج مهاجرا هو وأهله للمدينة المنورة فكان آخر المهاجرين فإصطحبه معه إلى مكة وكان له دور في إتمام الفتح سلما دون قتال حيث رأى العباس رضي الله عنه جيش المسلمين الذى كان قوامه عشرة آلاف مقاتل فأدرك أن لا قبل لقريش بهم وأمر الرسول بإيقاد النيران فأوقدوا عشرة آلاف نار في ليلة واحدة حتى ملأت الأفق فكان لمعسكر المسلمين منظر مهيب كادت تنخلع قلوب القرشيين من شدة هوله وقد قصد الرسول من ذلك تحطيمَ نفسيات أعدائه والقضاءَ على معنوياتهم حتى لا يفكروا في أية مقاومة وإجبارهم على الإستسلام لكي يتم له تحقيق هدفه دون إراقة دماء وركب العباس بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج يلتمس من يوصل الخبر إلى مكة ليخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة وكان كل من أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء قد خرجوا يلتمسون الأخبار فلما رأوا النيران قال أبو سفيان ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا فقال بديل بن ورقاء هذه والله خزاعة حمشتها الحرب فقال أبو سفيان خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها وسمع العباس أصواتهم فعرفهم فقال يا أبا حنظلة فقال أبو الفضل قال نعم قال ما لك فداك أبي وأمي فقال العباس قلت ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس واصباح قريش والله قال فما الحيلة فداك أبي وأمي قال والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فإركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله فأستأمنه لك فركب أبو سفيان خلفه وإنصرف عنه صاحباه وحذر العباس أبا سفيان من التعرض لجيش المسلمين حيث لا قبل لقريش به وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد قتالا في البلد الحرام ودخل العباس معسكر المسلمين وكلما مر بنار من نيران المسلمين قالوا من هذا فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته حتى مر العباس بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال من هذا وقام إلى العباس فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال أبو سفيان عدو الله الحمد لله الذى أمكن منك بغير عقد ولا عهد ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليه فقال يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني فلأضرب عنقه فقال العباس يا رسول الله إني قد أجرته فلما أكثر عمر في شأنه قال العباس مهلا يا عمر فوالله أن لو كان من بني عدى ما قلت هذا ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف فقال مهلا يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام أبي الخطاب لو أسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فإتني به .
ولما جاء الصباح أتى العباس بأبي سفيان فلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله فقال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني بعد قال ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله فقال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا فقال له العباس رضي الله عنه ويحك أسلم قبل أن نضرب عنقك فشهد شهادة الحق وأسلم فقال العباس رضي الله عنه يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فإجعل له شيئا قال نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن فقال رسول الله يا عباس إحبسه بمضيق الوادى عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها فخرج العباس رضي اللله عنه ونفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرت القبائل واحدة وراء الأخرى على راياتها وكلما مرت قبيلة قال أبو سفيان يا عباس من هذه فيقول غفار فيقول أبو سفيان ما لي ولغفار ثم مرت به قبيلة أخرى فقال يا عباس من هؤلاء فيقول سليم فيقول أبو سفيان ما لي ولسليم ثم مرت قبيلة ثالثة فقال أبو سفيان يا عباس من هؤلاء فيقول مزينة فيقول يا أبا الفضل ما لي ولمزينة قد جاءتني تقعقع من شواهقها ثم مرت قبيلة رابعة فقال أبو سفيان يا عباس من هؤلاء فيقول جهينة فيقول أبو سفيان ما لي ولجهينة ثم مرت قبيلة خامسة فقال أبو سفيان يا عباس من هؤلاء فيقول كنانة بنو ليث بن بكر وبنو ضمرة بن بكر فقال أبو سفيان نعم أهل شؤم والله هؤلاء الذين غزانا محمد بسببهم أما والله ما شوورت فيهم ولا علمته ولكنه أمر حتم ثم مرت قبيلة سادسة فقال أبو سفيان من هؤلاء يا عباس فيقول أشجع فقال أبو سفيان هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد وهكذا توالى مرور القبائل حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد فقال أبو سفيان سبحان الله يا عباس من هؤلاء فقال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار فقال أبو سفيان ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة ثم قال والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك إبن أخيك اليوم عظيما فقال العباس يا أبا سفيان إنها النبوة فقال فنعم إذن فقال له العباس رضي الله عنه النجاة إلى قومك وكان الهدف من أن يرى أبو سفيان مرور القبائل أمامه بأسلحتها وراياتها هو هزه هزة قوية يدرك من خلالها أن لا قبل لقريش بالمسلمين وأن عليها الإستسلام دون قيد أو شرط .
وترك العباس أبا سفيان ليدخل مكة فدخلها مسرعا بعد أن أدرك تمام الإدراك بضرور الإستسلام للمسلمين وإلا ستكون العواقب وخيمة على قريش ونادى بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به فمن دخل دارى فهو آمن فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه وقالت إقتلوا الحميث الدسم الأحمس قبح من طليعة قوم فقال ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن فقالوا قاتلك الله وما تغني عنا دارك قال ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن وتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد ودخلت قوات المسلمين مكةَ من جهاتها الأربع في آن واحد ولم تلق تلك القوات مقاومة تقريبا وكان في دخول جيش المسلمين من الجهات الأربع ضربةٌ قاضيةٌ لجنود قريش حيث عجزت عن التجمع وضاعت منها فرصةُ المقاومة وكان هذا من التدابير الحربية الحكيمة التي لجأ إليها الرسولُ محمد عندما أصبح في مركز القوة في العدد والعتاد ونجحت خطة الرسول فلم يستطع المشركون المقاومة ولا الصمودَ أمام الجيش الزاحف إلى أم القرى فإحتل كل فيلق منطقته التي وجه إليها في سلم وإستسلام إلا ما كان من المنطقة التي توجه إليها خالد بن الوليد رضي الله عنه في أسفل مكة فقد تجمع بعض رجال قريش كان على رأسهم صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وغيرهم مع بعض حلفائهم في مكان إسمه الخندمة وتصدوا للقوات المتقدمة بالسهام وصمموا على القتال فأصدر خالد بن الوليد أوامره بالإنقضاض عليهم وما هي إلا لحظات حتى قضى على تلك القوة وشتت شمل أفرادها ففروا كلهم وبذلك أكمل الجيش السيطرةَ على مكة المكرمة ودخل الرسول محمد مكةَ وعليه عمامة سوداء بغير إحرام وهو خافض رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى إن ذقنه كان ليكاد يمس واسطة الرحل ودخل وهو يقرأ سورة الفتح مستشعرا بنعمة الفتح وغفران الذنوب وإفاضة النصر العزيز ودخل النبي البيت فطاف به وفي يده قوس وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بالقوس ويقول جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ويقول أيضا جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ والأصنام تتساقط على وجوهها ورأى في الكعبة الصور والتماثيل فأمر بالصور وبالتماثيل فكسرت وأبى أن يدخل جوف الكعبة حتى أخرجت الصور وكان فيها صورة يزعمون أنها صورة نبي الله إبراهيم وإبنه نبي الله إسماعيل عليهما السلام وفي يديهما من الأزلام فقال الرسول محمد قاتلهم الله لقد علموا ما إستقسما بها قط وحان وقت الصلاة فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم مؤذنه بلال بن رباح أن يعتلي سطح الكعبة وأن يرفع الآذان فخلع بلال لباس الحرب وصعد ليؤذن على الكعبة وكان كل من أبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام بن المغيرة جلوس بفناء الكعبة المشرفة فقال عتاب لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه فقال الحارث أما والله لو أعلم أنه حق لإتبعته فقال أبو سفيان أما والله لا أقول شيئا لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء فخرج عليهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فقال لهم قد علمت الذى قلتم ثم ذكر ذلك لهم فقال الحارث وعتاب نشهد أنك رسول الله والله ما إطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك .
وهكذا كان للدور الذى قام به العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أثره الكبير في فتح مكة سلما دون قتال وبعد أيام من فتح مكة جاءت الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن قبائل هوازن وثقيف تعد العدة لغزو مكة وأنهم سلموا قياد أمرهم إلى مالك بن عوف سيد هوزان وكان آنذاك شابا في الثلاثين من عمره كما ذكرت لنا المصادر التاريخية وأجمعوا أمرهم على المسير لقتال المسلمين قبل أن تتوطد دعائم نصرهم وتنتشر طلائع فتحهم وقررت تلك القبائل إعلان الحرب على المسلمين وقام مالك بن عوف بجمع جنده من هوازن وإنضمت معه جنود من ثقيف ومن بني هلال وبني عمرو بن عامر وبني عوف بن عامر وبلغ تعداد جيشه أكثر من 25 ألف مقاتل وبالطبع فقد وصلت هذه الأنباء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة فإستعد وخطط جيدا للقاء المنتظر مع هوازن وقرر الخروج للقتال في مكان متوسط بين هوازن ومكة فقد آثر ألا ينتظر بمكة وفي ذلك حكمة كبيرة جدا لأنه لو بقي في مكة وغزاها مالك بن عوف بجيشه فقد يتعاون أهل مكة معه حيث كانوا آنذاك حديثو عهد بشرك وجاهلية ولو حدث ذلك فستكون هذه كارثة لأن الحرب بذلك ستصبح من الداخل والخارج ومن ثم فضل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج بجيشه إلى مكان مكشوف بعيد نسبيا عن مكة كما قرر أن يخرج بكامل طاقته العسكرية ويأخذ معه إثني عشر الف مقاتل وهم الذين فتح بهم مكة من قبل إضافة إلى المسلمين الطلقاء الذين أسلموا عند الفتح لأن أعداد هوازن كانت أكثر من ضعف هذا الرقم وكان في ذلك بعد نظر كبير أيضا من جانب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فهؤلاء إن تركوا في مكة قد يعودون إلى الكفر مرة أخرى وقد ينفصلون بمكة عن الدولة الإسلامية وخاصةً إذا تعرض المسلمون لهزيمة من هوازن وفي اليوم العاشر من شهر شوال عام 8 هجرية وصل جيش المسلمين إلى حنين وكان عدده إثني عشر ألف مقاتل وكان هذا العدد هو أكبر عدد لجيش المسلمين في ذلك الوقت فإغتر بعض المسلمين بكثرتهم فقال بعضهم لبعض لن نهزم اليوم من قلة وتناسوا أن الكثرة ليست هي المعيار الرئيسي لتحقيق النصر بل إن العقيدة والإيمان هما المعيار الرئيسي لذلك وأثناء سير النبي بجيش المسلمين على الجبل نظر فوجد منحدر كبير ثم وادى واسع ومساحة شاسعة من الأشجار على الجانبين ووجد جيش هوازن يقف على بعد فأيقن النبي صلى الله عليه وسلم أن جيش هوازن يكمن في هذه الأشجار فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يصف الجيش فكانت أول كتيبة بقيادة خالد بن الوليد والثانية بقيادة الزبير بن العوام والثالثة بقيادة على بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا ثم بدأت أول كتيبه بقيادة خالد بن الوليد تنزل إلى هذا المنحدر لإستطلاع الموقف وعند نزولها بدأت كمائن جيش هوازن التي كان مالك بن عوف قد أعدها بمهارة تخرج من بين الأشجار وأمطرت جيش المسلمين بالنبال والسهام .
وحاول خالد التراجع بفرقته إلا أنه إصطدم بالفرقة التي كانت تليه فكان أن إرتبك جيش المسلمين وتشتت جموعهم وفر البعض منهم من ميدان المعركة وبعد هذه المفاجأة لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا قله من أصحابه فبدأ ينادى ويقول إلي عباد الله أنا رسول الله فكان أول من أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس رضي الله عنه ففرح النبي صلى الله عليه وسلم لأن العباس كان صوته عاليا فقال له النبي ناد عليهم يا عباس فقال له ماذا أقول فقال النبي صلى الله عليه وسلم قل يا أصحاب بدر يا أصحاب الخندق يا أصحاب بيعة الرضوان فردوا لبيك لبيك وإنقلبوا راجعين جميعا بعد أن شتتهم هجوم المشركين المفاجئ وبدأوا يتجمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم من جديد وكان عددهم 66 من الأنصار وعدد 33 من المهاجرين ثم بدأ القتال يشتد ويقول العباس رضي الله عنه من شدة القتال نزل النبي صلى الله عليه وسلم من على فرسه وركب بغلته وتوجه بها في إتجاه جيش هوازن وهو يقول أنا النبي لا كذب أنا إبن عبد المطلب ثم أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب بيده وألقاها في إتجاه جيش هوازن وهو يقول شاهت الوجوه اللهم نصرك الذى وعدت ويقول العباس رضي الله عنه فما رأيت أحدا من هوازن إلا يفرك عينيه أو فمه وهكذا لم يكن العباس بجوار النبي صلى الله عليه وسلم فقط بل كان بين قدميه آخذا بخطام بغلته يتحدى الموت والخطر وإشتد القتال ولجأ الصحابة إلى الله عز وجل فقد أنزل الله سيدنا جبريل ومعه كتائب من الملائكة من السماء يراهم المؤمنين على هيئة نمل أسود صغير على أجساد الكافرين ويراهم الكافرون فرسان بيض وفي ذلك نزل قوله تعالى في سورة التوبة لَقَدْ نصَرَكُم الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَة وَيَوْمَ حُنَينٍ إِذ أَعْجَبَتْكُم كَثرَتُكُم فَلَمْ تُغن عَنكُم شيئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرضُ بمَا رَحُبَت ثُمَّ وَليتم مُدبِرِينَ ثم أَنزلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولهِ وَعَلَى الَمُؤمِنينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوهَا وَعَذَّبَ الذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ وفي هذه الأثناء كان خالد بن الوليد رضي الله عنه قائد مقدمة جيش المسلمين ملقى على الأرض وجسده كله طعنات فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وتفل في يده ومسح على جسده حتى برأ وحمي وطيس المعركة وبدأت بشائر النصر تلوح للمسلمين ثم لحقت الهزيمة بجيش هوازن وفر جنوده من ميدان المعركة تاركا وراءه عشرات الآلاف من الأبقار والأغنام والإبل وهكذا يذكر للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه كان ممن ثبتوا حول النبي صلى الله عليه وسلم في حنين ولم يفر مع من فروا ثم كان لندائه على الفارين بصوته الجهورى الأثر الكبير في عودتهم وثباتهم ومواصلة القتال حتى كتب الله النصر للمسلمين وحصد كميات كبيرة من الغنائم ومما يذكر أنه قد نزلت في العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه آيات من سورة التوبة وهي أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ بمعنى أن ذلك كان في الشرك ولا يقبل الله ما كان في الشرك وأن الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم هم القائزون في الدنيا والآخرة وذلك لما قال لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد في سبيل الله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحجيج ونفك العاني .
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الإثنين 12 من شهر ربيع الأول عام 11 هجرية وجاء وقت تغسيله قام بأداء هذه المهمة أهل بيته وعصبته من بني هاشم وهم إبن عمه علي بن أبي طالب وعمه العباس مع إبنَيه الفضل وقثم وأسامة بن زيد وشقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم جميعا وقد تم تغسيله وثيابه عليه ولم تنزع عنه فقد روى عن أم المؤمنين عائشة ينت ابي بكر الصديق رضي الله عنهما أنها قالت لما أرادوا غسلَ النبي صلى اللَّه عليه وسلم قالوا واللَّه ما ندرى أنجرد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه فلما إختلفوا ألقى اللَّه عليهم النوم حتَى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره ثم كلمهم متكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن غسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه وباشر علي رضي الله عنه غسل النبي صلى الله عليه وسلم وحده وأسنده إلى صدره وكان يقول وهو يغسله ما أطيبك يا رسول الله حيا وميتا أما العباس وإبناه الفضل وقثم فكانوا يقلبون النبي صلى الله عليه وسلم وكان أسامة وشقران يصبان الماء وشهد الغسل أوس بن خولي من بني عمرو بن عوف من الخزرج فقد طلب ذلك من علي فأذن له وتم تكفين النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أثواب من القطن دون نزع ثيابه عنه كما سبق الذكر وبعد أن إنتهت عملية تغسيل النبي صلى الله عليه وسلم وتكفينه وضعوه في بيته على سريره ليصلى عليه وقد صلى عليه المسلمون فُرادى من غير إمام يؤمهم بحيث تدخل جماعةٌ من الناس تصلي عليه وتخرج فصلى عليه الرجال ثم النساء ثم الصبيان و دفن بعد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في مكان فراشه في المكان الذى قبض الله فيه روحه الطاهرة وكان الصحابي أبو طلحة الأنصارى هو من يحفر لأهل المدينة فكان يلحد فدعا العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه رجل وقال له إذهب إلى أَبي طلحة فجاء أبو طلحة رضي الله عنه مسرعا فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتم إدخاله إلى القبر من جهة القبلة وجعل قبره مسطحا غير بارز ورش بلال بن رباح رضي الله عنه الماء على قبره إبتداءا بالشق الأيمن لرأس النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وإنتهاءا بقدميه الشريفتين وكان الدفن ليلة الأربعاء وقد نزل في قبره علي بن أبي طالب والفضل بن العباس وأخوه قثم وشقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم وقيل أسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما فكانوا هم من دفنوا النبي صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك كان العباس ين عبد المطلب رضي الله عنه هو من وقف يتلقى العزاء في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان هو كبير بني هاشم .
وفي عهد الخلفاء الراشدين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم جميعا كانت لعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه مكانته ومنزلته لديهم وروى أن عمر رضي الله عنه أراد أن يوسع المسجد الحرام فكان هناك بيت للعباس يعترض التوسعة فعرض عليه عمر أن يشتريه منه ويعوضه ببيت أوسع فلم يوافق العباس فقال له عمر إنه من أجل بيت الله وإذن فعلينا باللجوء إلي القضاء فإختر لنا قاضي يحكم بيننا فإختار العباس القاضي فوافق عمر فرد العباس أحضره لنا يا أمير المؤمنين فقال عمر القاضي لايذهب الى أحد بل نحن من نذهب إليه وهنا توجه عمر بن الخطاب والعباس بن عبدالمطلب رضي الله عنهما الى القاضي وعندما تكلم القاضي وقال لعمر يا أمير المؤمنين فرد عمر قائلا لاتنادني بأمير المؤمنين لأننا فى دار القضاء ناديني بعمر فقال القاضي ياعمر إن أبعد البيوت عن الحرام هو بيت الله وليس لك أن تهدم بيت العباس وتعوضه مكانه إلا برضاه فقال له عمر ونعم القاضى انت ياشريح فقال العباس لعمر اني قد تنازلت عن بيتى برضاى ياعمر من أجل الله وثمة موقف آخر كان للعباس مع الخليفة عمر بن الخطاب فلما كان عام الرمادة وهو عام الجدب في الجزيرة العربية عام 18 هجرية إستسقى عمر بالعباس قائلا اللهم إنا كنا نستسقيك بنبينا إذا قحطنا وهذا عمه بين أظهرنا ونحن نستسقيك به فلم ينصرف حتى أطبق السحاب وسقوا بعد ثلاثة أيام وأطلق على العباس بعد ذلك لقب ساقي الحرمين حيث كان هو المسؤول عن سقاية الحجيج في مكة كما أسلفنا ثم ها هو يستجيب الله له ويستسقي به المسلمين في المدينة ولما إختص الخليفة عمر عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما وقربه إليه قال له أبوه العباس ناصحا يا بني لا تكذبه فيطرحك ولا تغتب عنده أحدا فيمقتك ولا تقولن له شيئا حتى يسألك ولا تفشين له سرا فيزدريك وفي عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل العباس عليه وكان العباس خال أمه أروى بنت كريز فقال له عثمان يا خال أوصني فقال أوصيك بسلامة القلب وترك مصانعة الرجال في الحق وحفظ اللسان فإنك متى تفعل ذلك ترضي ربك وتصلح لك رعيتك وعلاوة على كل ما سبق فقد روى العباس رضي الله عنه عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة منها خمسة وثلاثون حديثًا في مسند الإمام بقي بن مخلد الأندلسي وحديثا في صحيح الإمام البخارى وثلاثة أحاديث في صحيح الإمام مسلم وقد روى عنه الحديث أبناؤه عبد الله بن العباس وكثير بن العباس وعبيد الله بن العباس وإبنته أم كلثوم بنت العباس رضي الله عنهم ومن غير أبناؤه الأحنف بن قيس وعبد الله بن الحارث بن نوفل وجابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام ومولاه صهيب وعامر بن سعد بن أبي وقاص وإسحاق بن عبد الله بن نوفل ونافع بن العباس بن عبد الرحمن مولى بني هاشم وجبير بن مطعم وعبد الله بن عميرة وعبد الله بن عنمة المزني وعبد الرحمن بن سابط الجمحي ومحمد بن كعب القرظي وكان مما رواه ما رواه الإمام البخارى في صحيحه عن عبد الله بن الحارث بن نوفل أنه قال حدثنا العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما أغنيت عن عمك يقصد أبا طالب فإنه كان يحوطك ويغضب لك قال هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار وما رواه أيضا الإمام مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سجد العبد سجد معه سبعة أطراف وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه وأخيرا فقد كف بصر العباس رضي الله عنه في أواخر حياته وكانت وفاته في عام 32 هجرية في عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وصلى عليه عثمان ودفن في البقيع رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
|