بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
حبيب بن زيد بن عاصم ين كعب بن منذر بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار المازني الخزرجي الأنصارى رضي الله عنه صحابي من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم من قبيلة الخزرج إحدى القبائل العربية الرئيسية في المدينة المنورة وكانت القبيلة الأخرى هي قبيلة الأوس وكانت هناك نزاعات وصراعات وحروب طاحنة بين القبيلتين قبل الإسلام إستمرت 140 عاما وكانت قبائل اليهود التي تسكن المدينة تغذى تلك النزاعات والحروب وتحيك المؤامرات والفتن بما يحقق لهم البقاء والريادة بالمدينة ولم تتوقف تلك الحروب بين القبيلتين إلا قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات وبدخول معظم أبناء القبيلتين في الإسلام إنتهت الصراعات والحروب وساد السلام بين القبيلتين بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة حيث أصلح النبي صلى الله عليه وسلم بين قلوبهم من خلال إستيعاب كلا الفصيلين في المجتمع المسلم ومنع سفك الدماء بين المسلمين وتم تضمين كل من القبيلتين في دستور المدينة بكونهم مسلمين في دولة واحدة ومجتمع واحد وشكلت القبيلتان الأنصار بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وكان من أشهر رجال قبيلة الخزرج غير الصحابي الجليل حبيب بن زيد بن عاصم رضي الله عنه الصحابة الكرام سعد بن عبادة وكان سيد الخزرج وإبنه قيس بن سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وعمرو بن الجموح وأبو الدرداء وعبد الله بن عمرو بن حرام وإبنه راوى الحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهم جميعا وينتسب الصحابي الجليل حبيب بن زيد رضي الله عنه إلى بطن من بطون الخزرج هو بنو النجار أخوال عبد الله بن عبد المطلب والد النبي الكريم محمد صلي عليه وسلم وكان ميلاده رضي الله عنه في المدينة المنورة وغير معلوم لدينا بالتحديد عام ميلاده ولكنه كان بالتأكيد قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وهجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وأبوه هو الصحابي الجليل زيد بن عاصم وأمه هي الصحابية الجليلة نسيبة بنت كعب بن عمرو المكناة بأم عمارة وأخوه هو الصحابي الجليل عبد الله بن زيد بن عاصم وخالته هي الصحابية الجليلة أم منيع أسماء بنت عمرو رضي الله عنهم جميعا وكان هؤلاء الخمسة بالإضافة إلى خديج بن سلامة رضي الله عنه زوج الصحابية أم منيع رضي الله عنها من السابقين إلى الإسلام وكان إسلامهم على الأرجح على يد الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه الذى أوفده النبي صلى الله عليه وسلم بعد بيعة العقبة الأولى إلى المدينة المنورة لكي يعلم من أسلم من أهلها القرآن الكريم وفرائض الإسلام ولكي يدعو أهلها إلى الإسلام فإذن كان الصحابي حبيب بن زيد رضي الله عنه مؤمن عريق جرى الايمان في أصلابه وترائبه وبالفعل فقد نجح مصعب رضي الله عنه في مهمته نجاحا باهرا وقدم مع وفد الأنصار المكون من ثلاثة وسبعين رجلا وإمرأتين في موسم الحج إلى مكة المكرمة كان من بينهم الصحابي حبيب بن زيد وأبوه وأمه وشقيقه وخالته وزوج خالته والذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية وعند البيعة قالوا يا رسول الله نبايعك قال تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة فقاموا إليه فبايعوه وبعد تمام البيعة قال النبي صلى الله عليه وسلم لوفد الأنصار أخرجوا إلي منكم 12 نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم فأخرجوا منهم 12 نقيبا تسعة من الخزرج هم سعد بن عبادة سيد الخزرج وأسعد بن زرارة وعبادة بن الصامت والمنذر بن عمرو وعبد الله بن رواحة وسعد بن الربيع ورافع بن مالك والبراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حرام وثلاثة من الأوس وهم أسيد بن حضير وسعد بن خيثمة ورفاعة بن عبد المنذر رضي الله عنهم جميعا وقال النبي صلى الله عليه وسلم للنقباء أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لنبي الله عيسى بن مريم عليه السلام وأنا كفيل على قومي وجعل أسعد بن زرارة رضي الله عنه نقيبا على هؤلاء النقباء فأصبح يلقب بنقيب النقباء وعند البيعة كان الرجال يصفقون على يدى النبي صلى الله عليه وسلم بالبيعة أما الإمرأتان اللتان حضرتا البيعة مع أزواجهما فقال لهما النبي قد بايعتكما إني لا أصافح النساء .
وبموجب بيعة العقبة الثانية بدأت هجرة المسلمين إلى المدينة المنورة ثم كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها بعد أن أذن له ربه ومنذ أن هاجر إليها وإستقر بها عاش الصحابي حبيب بن زيد رضي الله عنه إلى جوار الرسول صلى الله عليه وسلم يتعلم منه ولا يتخلف عنه في غزوة أو مهمة يتم تكليفه بها وشهد معه المشاهد كلها فيما عدا غزوة بدر في شهر رمضان عام 2 هجرية ثم غزوة أحد في شهر شوال عام 3 هجرية حيث كان ما يزال صغير السن ومما يذكر أنه في غزوة أحد شارك فيها أبوه زيد بن عاصم وأمه نسيبة بنت كعب وشقيقه عبد الله رضي الله عنهم جميعا ومما يذكر أنه في هذه الغزوة خرجت نسيبة رضي الله عنها مع جيش المسلمين وأبلت بلاءا حسنا وجرحت 12 جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف وتروى أم سعيد بنت سعد بن الربيع دخلت علي نسيبة فقلت حدثيني خبرك يوم أحد فقالت خرجت أول النهار إلى أحد وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء فإنتهيت إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين فلما إنكسر المسلمون وتراجعوا إنحزت إلى رسول الله فجعلت أباشر القتال وأذود عن رسول الله بالسيف وأرمي بالقوس حتى خلصت إلي الجراح وأضافت أم سعيد فرأيت على عاتقها جرحا له غور أجوف فقلت يا أم عمارة من أصابك هذا قالت أقبل إبن قميئة وقد ولى الناس عن رسول الله صلي الله عليه وسلم يصيح دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا فإعترض له مصعب بن عمير وناس معه فكنت فيهم فضربني هذه الضربة ولقد ضربته على ذلك ضربات ولكن عدو الله كان عليه درعان وكان ضمرة بن سعيد المازني رضي الله عنه يتحدث عن جدته أم عمارة قائلا كانت جدتي قد شهدت أحدا وقد خرجت لتسقي الماء وسمعتها تقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان وكان يراها يومئذ تقاتل أشد القتال وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها حتى جرحت 12 جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف وكانت تقول إني لأنظر إلى إبن قميئة وهو يضربها على عاتقها وكان أعظم جراحها فداوته سنة ثم نادى منادى رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد لمطاردة جيش قريش قبل عودته إلي مكة المكرمة فشدت عليها ثيابها فما إستطاعت من نزف الدم ولقد مكثنا ليلتنا نضمد الجراح حتى أصبحنا فلما رجع رسول الله صلي الله عليه وسلم من الحمراء فما أن وصل إلى بيته حتى أرسل إليها عبد الله بن كعب المازني رضي الله عنه يسأل عنها فرجع إليه يخبره بسلامتها فسر بذلك سرورا شديدا النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وكانت أولى المشاهد التي شهدها الصحابي حبيب بن زيد رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الخندق أو الأحزاب في شهر شوال عام 5 هجرية ثم غزوة بني قريظة في شهر ذى القعدة عام 5 هجرية وفي شهر ذى القعدة عام 6 هجرية شهد بيعة الرضوان وصلح الحديبية وفي شهر المحرم عام 7 هجرية شهد غزوة خيبر وفي شهر ذى القعدة من نفس العام شهد عمرة القضاء وفي شهر رمضان عام 8 هجرية شهد فتح مكة ثم غزوة حنين في شهر شوال من نفس العام وحصار الطائف في شهر ذى القعدة من نفس العام أيضا ثم شهد غزوة تبوك أو غزوة العسرة في شهر رجب عام 9 هجرية والتي كانت آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم .
وقرب أواخر العام العاشر الهجرى وقبل حجة الوداع ثم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الإثنين 12 من شهر ربيع الأول عام 11 هجرية شهدت منطقة جنوب الجزيرة العربية كذابين عاتيين يدعيان النبوة ويسوقان الناس الى الضلال خرج أحدهما بصنعاء وهو الأسود بن كعب العنسي وخرج الثاني باليمامة وهو مسيلمة الكذاب وراح الكذابان يحرضان الناس على المؤمنين الذين إستجابوا لله وللرسول في قبائلهما ويحرضان على مبعوثي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تلك الديار وأكثر من هذا راحا يشوشان على النبوة نفسها ويعيثان في الأرض فسادا وضلالا وكان مسيلمة في العام التاسع للهجرة قد وفد مع عدد من قومه المسلمين من بني حنيفة الذين قدمو إلى المدينة يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام إلا أن مسيلمة لم يبايع معهم بل قال أريد أن يشركني محمد معه في النبوة كما أشرك موسى أخاه هارون فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فأمسك عرجونا صغيرا من الأرض وقال لمسيلمة والله يا مسيلمة لئن سألتني هذا العرجون ما أعطيته لك فخرج مسيلمة ولم يبايع الرسول صلى الله عليه وسلم وعاد مسيلمة إلى اليمامة وأخبر بعضا من قومه أن محمدا قد يشركه في النبوة معه وبعث رسولين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملان إليه كتابا جاء فيه من مسيلمة رسول الله الى محمد رسول الله سلام عليك أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ولكن قريشا قوم يعتدون فسألهما النبي صلى الله عليه وسلم وأنتما ماذا تقولان فقالا نقول ما يقول مسيلمة فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم والله لولا أن الرسل لا تقتل لأمرت بقتلكما ورد على مسيلمة الكذاب بكتاب جاء فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب السلام على من إتبع الهدى أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ومضى الكذاب ينشر إفكه وكذبه وبهتانه وكان مما قوى أمره شهادة رجال قبيلته الذين شهدوا كذبا أنهم سمعوا رسول الله يشركه في الأمر ووصل الأمر ببعضهم أنهم كانوا يشهدون بأن مسيلمة كذاب وأن محمدا رسول الله لكنهم كانوا يقولون كذاب ربيعة وهي القبيلة الأم لبني حنيفة أحب إلينا من صادق مضر وهي القبيلة الأم لقريش يقصدون النبي محمد صلي الله عليه وسلم وإزداد أذاه للمسلمين فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث له رسالة ينهاه فيها عن حماقاته ووقع الإختيار على حبيب بن زيد رضي الله عنه ليحمل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب .
وإنطلق حبيب رضي الله عنه يسرع الخطى إلى مسيلمة باليمامة مغتبطا بالمهمة الجليلة التي ندبه اليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ممنيا نفسه بأن يهتدى مسيلمة وقومه الى الحق فيذهب هو بعظيم الأجر والمثوبة وبلغ حبيب غايته وسلم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لمسيلمة ففض كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له وقرأه فغضب وإزداد ضلالا وغرورا ولما لم يكن مسيلمة أكثر من أفاق دعي كذاب فقد تحلى بكل صفات الأفاقين الأدعياء ولم يكن معه أيضا من المروءة ولا من العروبة والرجولة ما يرده عن سفك دم رسول يحمل رسالة مكتوبة الأمر الذى كانت العرب تحترمه وتقدسه فجمع قومه ليشاهدوا يوما من الأيام المشهودة وجئ بمبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثار التعذيب واضحة عليه فقال مسيلمة لحبيب رضي الله عنه أتشهد أن محمدا رسول الله فقال حبيب نعم أشهد أن محمدا رسول الله وكست صفرة الخزى والعار وجه مسيلمة الكذاب وعاد يسأل حبيب وتشهد أني رسول الله فيجيب حبيب في سخرية أنا أصم لا أسمع شيئا وتلقى الكذاب لطمة قوية أمام من جمعهم ليشهدوا معجزته ودليل نبوته الزائف ونادى جلاده الذى أقبل ينخس جسد حبيب رضي الله عنه بسن السيف ثم راح يقطع جسده قطعة قطعة وبضعة بضعة وعضوا عضوا والبطل العظيم لا يزيد على همهمة يردد بها نشيد إسلامه لا اله إلا الله محمد رسول الله حتى فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها شهيدا رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وجزاه عنا وعن الإسلام خير الجزاء ولو أن حبيبا رضي الله عنه قد أنقذ حياته يومئذ بشئ من المسايرة الظاهرة لمسيلمة طاويا على الإيمان صدره لما نقض أو نقص إيمانه شيئا ولا أصاب إسلامه سوء فالله يعفو عن من أكره على النطق بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن الرجل الذي شهد مع أبيه وأمه وخالته وزوجها وأخيه بيعة العقبة والذى حمل منذ تلك اللحظات الحاسمة المباركة مسؤولية بيعته وإيمانه كاملة غير منقوصة ما كان له أن يوازن لحظة من نهار بين حياته ومبادئه ومن ثم لم يكن أمامه لكي يربح حياته كلها مثل هذه الفرصة الفريدة التي تمثلت فيها قصة إيمانه كلها ثبات وعظمة وبطولة وتضحية وإستشهاد في سبيل الهدى والحق يكاد يفوق في حلاوته وفي روعته كل ظفر وكل إنتصار وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم نبأ إستشهاد مبعوثه الكريم رضي الله عنه وإصطبر لحكم ربه فهو يرى بنور الله مصير هذا الأفاق الكذاب مسيلمة ويكاد يرى مصرعه رأي العين أما الصحابية نسيبة بنت كعب أم حبيب رضي الله عنهما فقد ضغطت على أسنانها طويلا ثم أطلقت يمينا مبررا لتثأرن لولدها من مسيلمة ذاته ولتغوصنّ في لحمه الخبيث برمحها وسيفها وكان القدر الذى يرمق آنئذ جزعها وصبرها وجلدها يبدى إعجابا كبيرا بها ويقرر في نفس الوقت أن يقف بجوارها حتى تبر بيمينها .
وقبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفد إلى المدينة المنورة أحد سادة بني حنيفة وهو الرجال بن عنفوة وقابل النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم بين يديه وبايعه ولما تلقى منه الإسلام عاد الى قومه ولم يعد إلى المدينة إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وإختيار أبي بكر الصديق خليفة على المسلمين ونقل إلى الخليفة أخبار أهل اليمامة وإلتفافهم حول مسيلمة بن حبيب سيد بني حنيفة وإقترح على الصديق رضي الله عنه أن يكون مبعوثه اليهم يثبتهم على الإسلام فأذن له الخليفة وتوجه الرجال الى أهل اليمامة ولما رأى كثرتهم الهائلة ظن أنهم الغالبون فحدثته نفسه الخبيثة الغادرة أن يحتجز له من اليوم مكانا في دولة الكذاب التي ظنها مقبلة وآتية بعد إنتصارها على دولة الإسلام فترك الإسلام وإنضم لصفوف مسيلمة الذى سخا عليه بالوعود وكان خطر الرجال على الإسلام أشد من خطر مسيلمة ذاته ذلك لأنه إستغل إسلامه السابق وعلاقاته السابقة بالاسلام وبالرسول صلى الله عليه وسلم والفترة التي عاشها بالمدينة المنورة في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وفاته وحفظه لآيات كثيرة من القرآن الكريم وسفارته لأبي بكر خليفة المسلمين وإستغل ذلك كله إستغلالا خبيثا في دعم سلطان مسيلمة ونشر أكاذيبه بهدف تأكيد نبوته المزعومة حيث سار بين الناس يقول لهم إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه أشرك مسيلمة بن حبيب في الأمر وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات فأحق الناس بحمل راية النبوة والوحي بعده هو مسيلمة وكان لذلك أثره الكبير في زيادة عدد أنصار مسيلمة زيادة كبيرة وكانت أنباء الرجال تبلغ المدينة المنورة فيتحرق المسلمون غيظا من هذا المرتد الخطير الذى يضل الناس ضلالا بعيدا والذى يوسع بضلاله دائرة الحرب التي سيضطر المسلمون أن يخوضوها وظن الكافرون أن الإسلام أصبح لقمة سائغة يمكن إبتلاعها فإرتدت الكثير من أحياء العرب فيما عدا المدينة المنورة ومكة المكرمة والطائف وإشرأب النفاق وجاءت التهديدات إلى دولة الإسلام الناشئة من كل مكان فوقف الخليفة العظيم أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم أجمعين من خلفه في وجه هذه المحنة كصلابة الجبال الراسيات والقمم الشامخات في مهب الريح العاتية وقرر الخليفة العظيم أبو بكر الصديق رضي الله عنه مواجهة الردة بكل أشكالها فعقد 11 لواء كل واحد منها وجهه إلى منطقة من مناطق الردة فوجه عكرمة بن أبي جهل لمسيلمة وحذره من الدخول في معركة معه حيث كان الغرض من توجهه إليه هو تثبيته فلا يقدم على معاونة باقي المرتدين لكنه تعجل ودخل في معركة مع مسيلمة ولم يستطع الصمود أمام جيشه فتراجع فوجهه الخليفة إلى اليمن لمواجهة المرتدين هناك وأرسل شرحبيل بن حسنة لتثبيت مسيلمة لكنه أخطا نفس خطأ عكرمة وتراجع في إنتظار وصول خالد بن الوليد بجيشه والذى كان يضم عددا كبيرا من كبار الصحابة والقراء وحفظة القرآن الكريم .
ولما سمع مسيلمة دنو خالد ضرب عسكره بمنطقة تسمى عقرباء وإستنفر الناس فجعلوا يخرجون إليه حتى بلغوا 40 ألف رجل تبعه أكثرهم من باب العصبية وفي الطريق إلى اليمامة إلتقى خالد وجيشه بفرقة من جيش مسيلمة كانت قد خرجت للثأر لبني عامر فأسرهم جميعا وسألهم عن مسيلمة فردوا منكم نبي ومنا نبي فأمر خالد بقتلهم جميعا عدا قائدهم مجاعة بن مرارة لعله يستفيد من خبرته ومكانته في قومه وجعل خالد شرحبيل بن حسنة على المقدمة وعلى الميمنة أبا حذيفة بن عتبة وعلى الميسرة شجاع بن وهب وعلى الخيالة أسامة بن زيد وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة وراية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنهم جميعا والعرب على راياتها فكان بينهم وبين المسلمين يوم شديد الهول ثبت فيه بنو حنيفة وقاتلوا عن أنفسهم وأحسابهم قتالا شديدا حتى إنكشف المسلمون وكادوا أن يهزموا لولا رجال من ذوى الدين والحمية الذين ثبتوا وصرخوا في الناس يا أصحاب سورة البقرة يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال وقال سالم مولى أبي حذيفة بئس حامل القرآن أنا إذا لم أثبت وأمرهم خالد رضي الله عنه بأن يمتازوا حتى يعلم من أين يؤتوا فأثارت هذه الصيحات روح الإستشهاد في نفوس المسلمين وحمل أبو حذيفة بمن معه على جيش المشركين وأصيب عند ذلك بجراح شديدة فسقط شهيدا ودماؤه الطاهرة تسيل على أرض اليمامة فرأه مولاه وحبيبه سالم وهو يسقط على الأرض فإنطلق نحوه فلما وصل إليه وجده قد خرجت روحه ليلحق بركب الشهداء في الجنة وقاتل هو الآخر يومها أشد القتال إلى أن قتل شهيدا وسقط إلى جنب رفيق حياته أبي حذيفة فقد جمع بينهما الموت كما كانت تجمع بينهما الحياة ليلتقيا إن شاء الله في جنات النعيم إخوة على سرر متقابلين وحمل جيش المسلمين على جيش مسيلمة حملة إستطاعوا بها أن يزحزحوا جيوشه عن موقفهم الأول ثم شد المسلمون حتى فر بنو حنيفة إلى الحديقة التي تسمى حديقة الرحمن وكانت منيعة الجدران فتحصنوا بها إلا أن المسلمين إستطاعوا أن يقتحموها بمعونة البراء بن مالك رضي الله عنه الذى رفعوه فوق سور الحديقة ونزل إلى بابها ففتحه ودخل المسلمون وهم يكبرون وقتل فيها مسيلمة وكان قاتله هو وحشي بن حرب قاتل أسد الله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه الذى رماه بحربته وفي نفس الوقت كان الصحابي الجليل أبو دجانة الأنصارى يهوى عليه بسيفه من ناحية ونسيبة بنت كعب تهوى عليه يسيفها من ناحية أخرى ومما يذكر أن أبو دجانة رضي الله عنه إستمر بعد ذلك في القتال بالحديقة وهو يرتجز قائلا أنا سماك أبو دجانة لست بذى ذل ولا مهانة ولا جبان القلب ذى إستكانة لا خير في قوم بدين خانة حتى أصابه سهم فحاول النهوض ولكن السهم أصاب قلبه فأغمض فارس الخزرج عينيه وسقط شهيدا رضي الله عنه وصعدت روحه الطاهرة إلى السماء وقد سميت هذه الحديقة بعد ذلك بحديقة الموت وكانت المعركة التي دارت بها معركة فاصلة ففيها إنتصر المسلمون إنتصارا ساحقا وهزم أعداؤهم بعد معركة من أعنف المعارك قتل فيها مسيلمة الكذاب وعدد 21 ألف من قومه واتباعه وبلغ عدد شهداء المسلمين يومذاك 1200 شهيد منهم الصحابة أبي دجانة وأبي حذيفة بن عتبة ومولاه سالم وزيد بن الخطاب وعباد بن بشر والطفيل بن عمرو وغيرهم كثير من كبار الصحابة وحفظة وقراء القرآن الكريم رضي الله عنهم جميعا رحمهم الله رحمة واسعة وغفر لهم وأسكنهم فسيح جناته مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ومما يذكر أن إستشهاد هذا العدد الكبير منهم كان سببا في الجمع الأول للقرآن الكريم في عهد الخليفة الراشد الأول ابي بكر الصديق .
|